(الكونت دي مونت كريستو) لدوما: الانتقام حين يكون مبرَّراً

مع كاتب من طراز ألكسندر دوما الأب (تمييزاً له عن ابنه حامل الاسم نفسه وصاحب (غادة الكاميليا) يكون السؤال المنطقي الأول الذي يمكن طرحه هو: كيف تمكن هذا الرجل من كتابة كل ما كتب؟ وما كتب دوما الأب هذا يشغل ما لا يقل عن ثلاثمئة مجلد، بين رواية ومسرحية ومذكرات وكتب رحلات وأشعار وبحوث وما إلى ذلك. وتأتي شرعية هذا السؤال من واقع أن دوما عاش حياة متقلبة، حياة تجوال وتشرد دائمين، مليئة بالمغامرات وبالإفلاس وبالهرب من الدائنين من مكان إلى آخر، تقطعها فترات ثراء كان خلالها لا يتورع عن تحقيق المشاريع الضخمة وإغواء العشيقات، وبناء القصور والمسارح. كل هذا وهو لم يعش سوى ثمانية وستين عاماً. وحسبنا لإعطاء السؤال وزنه أن نذكر أن دوما كتب للمسرح فقط مئة مسرحية، مُثلت جميعها في زمنه وتحت إشرافه، وغالباً من بطولة ممثلات كانت الواحدة منهن سرعان ما تصبح عشيقته. ومن المعروف في فرنسا أن ما من كاتب يضاهي ألكسندر دوما الأب، في خصوبة إنتاجه وتنوعه وشعبيته، سوى فيكتور هوغو، معاصره، والذي – مثله – انطبعت أعماله، الروائية والمسرحية، بمقدار كبير من الرومانسية. وإذا كان يقال أن هوغو كان مؤسس المسرح الشعري الرومانسي في فرنسا (بداية من مسرحيته (هرناني))، فإن دوما كان مؤسس المسرح النثري الرومانسي (لا سيما مسرحيته (هنري الثالث وبلاطه) التي كتبها وكان لا يزال نكرة في السادسة والعشرين، محققاً بها حضوراً مباغتاً في الحياة المسرحية والأدبية الفرنسية).

غير أن المسرح لم يكن النوع الذي بنى فيه دوما مجده. مجاله الأهم كان الرواية، فكتب عشرات الروايات التي لقيت على الدوام شعبية كبيرة، لما امتلأت به من مغامرات وتصوير فذ للشخصيات وتطوير متميز للعلاقات، ما يضع هذه الروايات في مكانة متقدمة بين الأدب الشعبي في العالم أجمع، إذ إن معظم أعماله ترجم إلى عشرات اللغات. من هنا، لا يبدو غريباً أن رواياته لا تزل تُقرأ بشغف حتى أيامنا هذه، وتقتبس إلى السينما والتلفزة. بعدما اقتبست إلى المسرح والأوبرا طوال قرن ونصف القرن. ولكن، على كثرة ما كتب ألكسندر دوما الأب من روايات تبقى (الكونت دي مونت كريستو) الأشهر والأكثر شعبية (واقتباساً) من بين أعماله كافة، مع استثناء أساسي هو رواية (الفرسان الثلاثة). فما الذي يجعل لرواية (الكونت دي مونت كريستو) كل هذه الشعبية على الصعيد العالمي؟

إنه سؤال شغل الباحثين طويلاً، إذ حيرهم هذا الإقبال الكبير على عمل يتسم أول ما يتسم ببساطة سردية تقترب من حدود السذاجة، وبحس ميلودرامي لأحداث بالكاد يمكن تصديقها، وبنفحة رومانسية تبدو مغرقة في القدم، وبشخصيات ليس من السهل دائماً تفسير دوافعها ونوازعها، وإضفاء بعد تحليلي (جوّاني) على ما تقوم به من تصرفات… فهل يتعين علينا، هنا، أن نقول أن هذا كله ربما كان هو ما أضفى على (الكونت دي مونت كريستو) سحرها؟ أم إن علينا أن نقول، بالأحرى، أن (الخبطات المسرحية) في هذه الرواية، و (القلبة) التي تعرفها حياة بطلها منقذة إياه من سجنه، رامية به على طريق الثأر من الذين غدروا به، تأتي لتشبع داخل القارئ ذلك النهم إلى الثأر من أوضاع وأقدار مكبّلة وظالمة؟ من الواضح أن هذه الفرضية الأخيرة تبدو أكثر منطقية انطلاقاً من واقع تاريخي يقول لنا أن الكونت دي مونت كريستو – إدمون دانتيس، كان من الشخصيات الروائية الأولى في تاريخ الأدب التي شعر القراء بتماهٍ تام معها، وهو تماه كان مريحاً تماماً، طالما أن هذه الشخصية بانتقالها من حالة البحار المظلوم، إلى حالة الكونت الثري المنتقم، تبدو هنا كواحدة من شخصيات حكايات الجن المكتوبة أصلاً للصغار، والتي تصور عملية الانتقال السيكولوجي برسم الصغار، معزية إياهم على حالات الظلم والتخلي التي يستشعرونها وهم صغار يخشون ترك الأهل لهم.

في هذا الإطار تبدو حالة دانتيس أشبه بحالة سندريلا، وتبدو الثروة التي يمكّنه الأب فاريا من العثور عليها، أشبه بالحذاء السحري الذي يعثر عليه الأمير، في حكاية سندريلا، ما يرفع من شأن الفتاة المظلومة ويمكنها من الثأر لظلمها. والحال أن دوما في تعامله مع البعد السيكولوجي (الجوّاني) للنقلة المسرحية في روايته في هذا الشكل، اكتشف خير وسيلة للتعامل مع الجمهور العريض بصفته طفلاً برسم النمو دائماً، تتملكه مخاوفه ويفرحه تحقيق الشخصية التي هي محط تماهيه، لثأرها وثروتها، كبديل من تحقيقه هو لذلك. ويقيناً أن دوما في اختراعه هذا، إنما اخترع البطولة الجديدة: بطولة التماهي كبديل من بطولة المثل الأعلى.

تدور أحداث الرواية، بداية في مرسيليا، حول إدمون دانتيس، البحار الجوّال الذي يكون مستعداً لعرسه عام ،1815 حين تقبض عليه الشرطة، وقد اتهم – زوراً وبهتاناً – بمناصرة نابوليون الذي كان هزم وأسقط عن عرشه لتوه. هكذا، بعد القبض عليه وتدمير حياته على ذلك النحو يسجن دانتيس في حصن إيف الرهيب طوال أربعة عشر عاماً. وهو خلال فترة سجنه كان يعرف تماماً أنه بريء مما نسب إليه، وأن سبب سجنه إنما هو مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص كان لكل منهم مأرب في التخلص منه. وأول هؤلاء كان فرنان غريمه في حب الحسناء مرسيدس، خطيبته، والثاني كان منافسه في أعماله المدعو وانغلار، أما الثالث فكان رجل قضاء طموح هو فيلفور الذي اكتشف، ما إن وضعت قضية دانتيس بين يديه، ما سيعود عليه من فوائد سياسية إن هو دانه وحكم عليه. هكذا، في سجنه، لا يكون للبحار المظلوم من همّ سوى رسم الخطط للهرب والانتقام من هؤلاء الثلاثة.

يتمكن أخيراً من الهرب بفضل العون الذي يقدمه له صديقه الأب فاريا الذي يفضي إليه قبل موته، بمكان وجود كنز يمثل ثروة هائلة، في جزيرة مونت – كريستو. هكذا، إذ يهرب إدمون، ويحصل على الثروة، يعود إلى الحياة العامة ثرياً غامضاً لا يعرف أحد عن ماضيه شيئاً. يطلق على نفسه اسم الكونت دي مونت كريستو، ويبدأ في استخدام ثروته الهائلة لتحقيق انتقامه من الذين رموا به في السجن. لقد جعل من نفسه قدراً يهبط من عل على ضحاياه مدفّعاً إياهم ثمن ما فعلوا، وما عجز القضاء عن معاقبتهم عليه. ونعرف طبعاً أن حكاية هذا الانتقام، وعودة إدمون للالتقاء بحبيبته مرسيدس، تشكلان القسم الثاني والأساسي من هذا الكتاب. وهو القسم الذي يتخذ فيه إدمون لنفسه أسماء عدة وينظم مؤامرات وأحداثاً وما شابه، بحيث يبدو كأنه الملاك الأول المنتقم في تاريخ الرواية الحديثة.

كتب ألكسندر دوما الأب هذه الرواية عام ،1844 وكان في ذروة عطائه ومجده، هو الذي كان في ذلك الحين في الثالثة والأربعين من عمره. وكان ذلك عند بداية اتجاهه إلى كتابة الرواية، بعدما أنفق القسم الأول من مساره المهني وهو يكتب للمسرح وينجح في ذلك. وهو كتبها في الوقت الذي كتب فيه بعض أفضل رواياته، مثل (الفرسان الثلاثة) (1844 – 1845) و(بعد عشرين عاماً) (1845) و (الملكة مارغو) (584_) ما يعني أن (الكونت دي مونت كريستو) تمثل لحظة الذروة في إبداع هذا الكاتب الخصب، المتحدر من جد كان جنرالاً في جيش نابوليون وجدة كانت أَمَةً سوداء في هايتي. ودوما نفسه كان عند بداية حياته العملية انخرط في الحرس الوطني، برتبة ضابط، وخاض أحداث ثورة ،1830 ما جعل منه بطلاً وطنياً، إضافة إلى كونه كاتباً يشق طريقه إلى المجد. غير أن مبالغته في الانخراط في السياسة، وفي المغامرات النسائية والمالية، دفعته في ذلك الحين إلى الهرب من فرنسا، في رحلة أولى سبقتها رحلات تتضمن فترات إقامة طويلة في الخارج (إيطاليا، روسيا… إلخ). أخيراً في عام ،1870 بعدما أمضى حياة مغامرات، حافلة بكتابته روايات المغامرات ومسرحياتها، قضى ألكسندر دوما الأب بالسكتة القلبية في عام ،1870 بعدما كتب ما كتب. وبعد أعوام من كتابته مذكراته، وأخيراً (قاموس الطبخ) الذي لم ينشر إلا بعد موته.

 

عن (الحياة)

العدد 1104 - 24/4/2024