عمر أبو ريشة.. شاعر الرومانسية والسردية

يحار أي باحث أو ناقد أدبي في أن يلم بإبداعات الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، وهو القامة الكبيرة والمجدد البارز في بلاغة القصيدة العامودية إلى جانب العديد من القامات الكبيرة الآخرى كبدوي الجبل ونزار قباني وغيرهم. ولقد بدى إسهام أبو ريشة واضحاً من خلال تجاوزه لكل القيم الكلاسيكية الصارمة، والانفتاح على أشكال وأنماط أخرى في الشعر شكلت اللبنة الأساسية لنزعة رومانسية جديدة، تجلت بشكل رئيسي من خلال اللغة الغنائية العذبة والتركيز على الجانب الذاتي وتمجيد الحالة الفردية التي تشكل أهم سمات الشعر الرومانتيكي.

ولد عمر أبو ريشة في عام 1910 في مدينة منبج التابعة لمحافظة حلب، وعاش في كنف أسرة عرفت بعراقتها وحبها للأدب والشعر، فوالده شافع أبو ريشة من أبناء الأمراء في عشيرة الموالي، ووالدته هي ابنة الشيخ إبراهيم علي نور الدين اليشرطي شيخ الطريقة الشاذلية في فلسطين، ولعل ذلك ما يبرر النزعة الصوفية في بعض قصائد شاعرنا.

تأثر الشاعر خلال مسيرة حياته بمجمل التطورات السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في عصره، وواكب أحداث الحرب العالمية الثانية، ومرحلة الاستقلال، وقد انعكس ذلك بشكل كبير في شعره الذي كان ثورة على كل قديم وصرخة من أجل التحرر من كافة القيود الجمالية التي كبلت بها الكلاسيكية القديمة القصيدة الشعرية.

ولعل أبرز السمات التي ميزت شعر عمر أبو ريشة هي المقطعية إذ انصب اهتمام الشاعر بشكل أساسي (على خلاف القصائد الكلاسيكية التقليدية التي كانت تعنى بشكل رئيسي بمطلع القصيدة) على المقطع أي البيت الأخير، حيث يشكل البيت الأخير البناء الأساسي الذي يستند عليه هيكل العمل وقد برز ذلك في أكثر من قصيدة، منها قصيدته (عودي) التي ينساب السرد فيها بشكل يجذب انتباه القارئ ويزرع في مخيلته نهاية محددة ليأتي البيت الأخير مبدداً لكل تصوراته:

قالتْ مللتُكَ. إذهبْ. لستُ نادِمةً

على فِراقِكَ.. إن الحبَّ ليس لنا

سقيتُكَ المرَّ من كأسي. شفيتُ بها

حقدي عليك.. ومالي عن شقاكَ غنى!

لن أشتهي بعد هذا اليوم أمنيةً

لقد حملتُ إليها النعش والكفنا

قالتْ.. وقالتْ.. ولم أهمسْ بمسمعها

ما ثار من غُصصي الحرى وما سَكنا

تركْتُ حجرتها.. والدفءَ منسرحاً

والعطرَ منسكباً.. والعمر مُرتهنا

وسرتُ في وحشتي.. والليل ملتحفٌ

بالزمهرير. وما في الأفق ومضُ سنا

ولم أكد أجتلي دربي على حدسِ

وأستلينُ عليه المركبَ الخشِنا..

حتى.. سمعتُ.. ورائي رجعَ زفرتها

حتى لمستُ حيالي قدَّها اللدنا

نسيتُ مابي… هزتني فجاءتُها

وفجَّرَتْ من حناني كلَّ ما كَمُنا

وصِحتُ.. يا فتنتي! ما تفعلين هنا؟؟

البردُ يؤذيك عودي… لن أعود أنا!

فالبيت الأخير هو بيت القصيد وهو خاتمة الحدث الشعري ، وعلى اعتبار أن عمر أبو ريشة شأنه شأن الكثير من شعراء تلك المرحلة ينتمي إلى المدرسة الرومنتيكية الحديثة، فقد اتسم شعره بالطابع السردي الملحمي، فكانت قصائده تعتمد على الحدث والحركة والشخصيات والزمان والمكان، وهي ذات بنية كلية كما هو الحال في قصيدته جان دارك التي استقى موضوعها من لوحة تحمل  الاسم نفسه معروضة في متحف اللوفر:

نادت بفيلقِها البتولُ وهز ساعدها المهنَّد

وعدت إلى حرمِ الجهادِ السمحِ بالعزمِ الموطَّد

فتلاحم الجيشانِ فاندلع الّلظى والهولُ أرعد

هذا يفر وذا يكر وذاك يصعد

والموتُ يأكلُ ما تُلقِّمه يد الطعنِ المسدد

حتى إذا نالت نواجذُه من الأشلاءِ مقصد

بدتِ البتولُ كما بدا من كوةِ الظلماءِ فَرْقد

تختالُ جذلى بالفخارِ وعزةِ النَّصرِ المخلَّد

نلاحظ في هذه القصيدة كيف يتداخل المسارين السردي الملحمي والوصفي، وينسابان جنباً إلى جنب من ساحة المعركة إلى الصورة المشرقة لتلك الثائرة ضد الطغيان في لحظاتها الأخيرة، ولكن السمة الأبرز في هذا العمل تجلت في إعجاب أبو ريشة بالقيم الخالدة والبطولات إضافة إلى إيمانه العميق بدور المرأة في المجتمع

وأخيراً لابد لنا من أن نتكلم عن أحد أهم جوانب الفنان الشاعر، وهي البحث عن الخلود، فهاجس الفنان الرئيسي كان دائماً البحث في مسائل الحياة والتفدم مع الزمن وإذا كان الواقع يحمل في طياته استحالة فكرة الخلود فكان الخيار الوحيد هو اللجوء إلى الفن لتخليد الشاعر ورفعه إلى تلك الحالة التي يصبح فيها جزءاً من صيرورة الحياة، ولكن مرآة الواقع أقوى من كل شيء.

وقد بدا ذلك واضحاً في قصيدته عناد حيث يقول:

وأتـيت مرآتي وعطري في يدي

فـبصرت ما لا كنت فيها أبصر

فـخفضت طـرفي ذاهلاً متوجعاً

ونـفرت مـنها غـاضباً استنكر

خـانت عـهود مودتي فتغيرت

مـا كـنت أحـسب أنـها تتغير

وفي النهاية لا بد لنا من أن نذكر، أن عمر أبو ريشة استطاع من خلال الخاصية الرومانتيكية في قصائده أن يبتكر علاقة جدلية بين الخيال والطبيعة، كما أن البعد الصوفي الواضح في قصائده جعل من نظرته للمرأة أكثر روحانية ومثالية:

أفقتِ مع الحلم المسفرِ على نغمٍ شاردٍ مسكرِ

أنا حفنةٌ من رمادٍ على مجمرِ الزّمن الأزورِ.

إن عمر أبو ريشة هو بحق من شعراء سورية الكبار الذين تركوا أثراً كبيراً في مسيرة الشعر العربي، وكانوا من المجددين الرواد الذين أضافوا الكثير وأعطوا الشعر مساحات أرحب وأكثر تنوعاً.

العدد 1140 - 22/01/2025