أطباق درامية

ربما بتنا ننتظر كعادتنا أطباقاً تخص أرواحنا، فضلاً عن وجباتنا الرمضانية الخفيفة الظل بفعل ما يثقلها من جشع الباعة، لنهرب إلى الدراما فقط علينا أن نبدأ بالتناول وبصرف النظر عن تعدد تلك الأطباق، فبعضها طازجاً والآخر قيد التسخين وهكذا.

 قيل إننا لا نتفرج على الدراما بقدر ما تتفرج هي علينا، لترى صورنا كيف تتحرك على خشبة الواقع، وكيف تطمئن إلى نهار خال من الخوف والعزلة، ولعل الطبق اليومي (درامياً) لم يعد يجتذب كعادته الجمهور، الذي كان يغلق في سنوات مضت وقته تماماً ليحظى مثلاً بأولى صور باب الحارة، لكن أي باب؟ وأي حارة؟ فقد تعددت الأبواب وتاهت الحارات في وعي المشاهد، كأنها أصبحت مجازاً، فقط يحصل ذلك في الدراما، أن تستعيد بيتك والطريق إليه وذكرياتك مع بائع الحمص والبقوليات وكذلك مع بائع العرقسوس الشعبي وصولاً إلى مسحّر رمضان وهكذا أصبح رمضان في الدراما حاضراً بكل طقوسه فيما يغيب في الواقع محتفظاً بما تبقى من تلك الطقوس، سريعاً كعادته كأني به يركض إلى غير اتجاه، فيما تظل أطباق الواقع تشكو من انفضاض أهلها وغريب زمنها، بلا نكهة هي تماماً كأطباق الدراما التي نحاول أن نرش عليها سكر الوقت المتأخر، علنا نظفر ولو قليلاً بحلاوتها. حتى الضحك زارنا متثاقلاً متجهماً، مازال يبحث هو الآخر عما يضحكه ويقنعه بأن الضحك هو ثراء للأرواح وبهجة للنفوس، وليس حاجة درامية مصنوعة لا تأخذ بالحسبان من هم ضحاياها ومصدقي براءة اختراعها.

وهناك من يقول في أطباق رمضان ثمة جرعات قاسية من العنف، ربما تجاوز عنف الواقع، ويتساءل آخرون، كأن الضحك في بعض الأطباق يأتي من عالم ثانٍ لا شأن لنا به، فقط إن أردنا تقليده فإننا نذهب في بكاء مر!.

لكن علينا في وحدة الأطباق جميعها أن نشكر الواقع لأن صورتنا فيه لم تستطع الدراما أن تتجاوزها، ولو أنها خاتلت كثيراً وتوسلت كثيراً أن تصنع مثلها، لنصبح جميعاً في بقعة ضوء كبيرة داخل الواقع وخارج الدراما.

إذاً هي أطباق ربما وضعت توابلها على عجل رغم أنه يقول قائل: النهار طويل والليل يكاد لا يتسع لطبق واحد، وبعد ذلك يتداعى المرء منهكاً حينما يتطاير غبار معارك الدراما، فيكاد يصيبه، ويتطاير غبار الضحك فيملأ رئتيه بالأسى: هل ثمة ما يضحك حقاً أم أننا نتوسل شيئاً ما لننسى؟ يقول آخر: لكن الضحكة من القلب وإن لم تأتِ هكذا فستصبح صراخاً بائساً في غابة ممتدة، فكلنا في بقعة ضوء إذاً ممثلون (كومبارس) عابرو نصوص وكلام، بل عابرو ضحك عابر، كأنما نستبدل به الكثير من الجدية التي هُرقت وانكسفت بفعل وحشة المشاهد، في هذا العالم الذي اختلطت فيه الأشياء. ثمة طبق أخير ما يزال ساخناً وليس بوسع المرء أن يؤجل التهامه أو تذوقه على الأقل، إنه طبق الذاكرة وحدها التي تصطفي من كل المفارقات التي تمر بالكائن سواء كان كائناً تلفزيونياً أو عادياً نكهتها وطعمها، وبها وحدها نستمر ونتذكر، فللذاكرة رواح شهية وتوابل من ضحك خفي، لم تستطع الأقدار أن تسرقه من أفواه الضاحكين نهاراً في شوارع تمتد كألسنة شقية، وهم يقفون في زواياها الحادة يطلبون بهمس رقيق ما يسد رمقهم لليلة واحدة فقط، وهكذا يمضون ليلتحقوا بأحلامهم الأخرى، هم في أطباق أيامهم من تتذوقهم الأيام فلا تعثر على نكهتها، لأنهم يذهبون سريعاً إلى النسيان.

وهكذا تأتي الذاكرة من جديد لتبدأ خارج الأطباق جميعها، تصبح طبقاً يستحق البقاء.

العدد 1104 - 24/4/2024