العين مرآة الروح

 كتحقيق لنبوءة فيثاغورث عن الشمس التي تشرق من الغرب، انتهى العقل المادي إلى السيطرة على مسالك الحياة وجعل غاية الوجود تقديس الرغبة والقوة. بينما نحى المنطق باتجاه قولبة الغرائز وأولويتها في تفسير عصف التاريخ وثوران الأحقاد. أما الروح فواظبت على الحضور من خلال العين لتذكر بعالم أسمى خلق من أجله الوجود. لذلك يملك كل شخص يعيش على هذا الكوكب زوجاً فريداً من العيون خاصاً به. مما يجعل معالجة الصور والانطباعات رهيناً بتجارب الروح عبر الأثواب المتعاقبة، الأمر الذي يؤجج الصراع مع العقل المادي، فيولد التوقد الفكري الخلاق المنعكس في الإبداع الفني والأدبي.. 

قد تكون محاولةMike Cahill)  ) كاتب ومخرج الفيلمI Origins) ) بسيطة جداً قياساً إلى تجارب لامعة سبقتها كحالة فيلم (سحابة أطلس) مثلاً أو (شباب بدون شباب) لفرانسيس فورد كوبولا. لكنها على الأقل ساقت المشاعر نحو التفتح الروحاني عبر بوابة العين، ضمن مخاطبة علمية جيدة للعقل الغربي المادي المسلح بمنطقه التجريدي.  

 تدور قصة الفيلم عنعالم شاب يدعى إيان غراي، شغف بالكاميرات منذ طفولته، ودأب على التقاط صور مميزة للعيون البشرية، بعد أن استوقفه مطولاً تشابه آلية عمل العين الإنسانية والكاميرا، والمتكئة على إمرار الضوء من خلال العدسة وتحويله إلى صور. ليوظف هوسه لاحقاً في دراسة الطب، وإجراء الدراسات التجريبية لتطوير قدرة الإبصار في الكائنات الحية. وتبدى هاجسه الحقيقي في تكرار التجارب وصولاً إلى تحويل الديدان العمياء إلى ديدان مبصرة. لكن عيوناً فاتنة غيرت عالمه وهزت قناعاته وأدخلته مرغماً إلى عالم روحاني أصر على تجاهله وإنكاره.

يتعرف إيان أثناء حفلة هالوين التنكرية على فتاة تدعى صوفي ترتدي قناعاً يبرز عينيها فقط، مما يضاعف تأثيرهما، ويثبت تفاصيلهما في مخيلة الشاب المستغرق في انذهاله بآفاق العيون وبواباتها الغامضة. فيشعر بأن فراغه الداخلي قد امتلأ بها حتى فاض حباً وهياماً، رغم انسجامها الكلي مع اسمها الذي يرمز الى الحكمة. الأمر الذي يشكل تعارضاً بينهما منذ الوهلة الأولى، إذ يقابل حججها عن بوابات العالم الروحي بالإنكار وبالاستغراق في تجاربه التطبيقية على العيون. وبعد بضعة أشهر يقرران الزواج ويرتديان ملابس تليق بالمناسبة، ويتوجهان إلى المكان المخصص لعقد القران. لكن الأقدار تواصل معاكساتها ليؤجل الزواج يوماً كاملاً، مما يوقع القلق في نفس صوفي، ويبعث العلامات المنذرة بالشؤم. خاصة حين يلبسها الخاتم ثم يصحبها إلى المختبر حيث يترافق إعلان زواجه مع خبر نجاح تجاربه على الديدان العمياء. مما يشكل جسراً مؤقتاً بين الروح والمادة، يستولد جملة من التداعيات المتتابعة. بداية بالعمى المؤقت لإيان ثم انشطار جسد صوفي بالمصعد وموتها، وزواج إيان من شريكته في التجارب كارين كرد فعل على صدمة انفصاله الفاجع عن صوفي وعوالمها التي ملأته بالخوف والهلع.    

بعد ثماني سنوات من نجاحهما المهني ينجبان طفلاً ويسمحان بالتقاط صورة لعينيه وضمها إلى الأرشيف الضخم لماسح القزحيات. فيشير الكمبيوتر إلى تطابق كلي بين قزحية الطفل الوليد وقزحية رجل مات منذ عشرة أشهر. وبعد سبعة أشهر تتأكد الفرضية حين تعرض أمام الطفل صور لحياته السابقة، فيبتسم لمرآها أمام دهشة إيان واستنكاره. مما يدفعه لمطابقة صورة عيني صوفي مع احتمالات ماسح القزحية، ليتعرف على صوفي مجدداً في هيئة طفلة هندية مشردة.. كانت صوفي الضوء الذي سمح بفتح الباب الموصد لعالم الأرواح. باب أوصده الخوف والتعلق بأمان المادة، مما استدعى هزه بعنف المأساة وقوة حجتها الدامغة، لتكون تذكيراً بأن العين هي مرآة الروح..

العدد 1105 - 01/5/2024