… وللشعب كلمته أيضاً

بدا للبعض أن المعركة الدائرة بين الجيش العربي السوري وجحافل الغزاة والمجموعات المسلحة منذ أكثر من نحو 30 شهراً، وكأنها معركة عسكرية فقط، تستعمل فيها مختلف صنوف الأسلحة وأشكال القتال، رغم أن العديد من البراهين قد أظهرت أبعاداً أخرى لهذه المعركة، كالبعد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والتآمري.. إلا أن ألوف المتظاهرين في الأيام القليلة الماضية، الذين ملؤوا شوارع مدن وبلدات سورية ، مطالبين بطرد المرتزقة والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، ومنادين بالمصالحة بين أفراد الشعب السوري، أعطت للقضية نكهة أخرى، هي نكهة الشعب الذي لم ينزل إلى الشوارع بصورة مبرمجة يغلب عليها الطابع الرسمي، كما اعتاد من قبل، بل طغى عليها طابع العفوية والتلقائية التي تستبطن وعياً متطوراً حول طبيعة القضية، أخذ ينضج تدريجياً ليصل إلى تحديد الطرف المعادي الحامل لما يمكن أن نطلق عليه صفة مشروع الدولة الدينية الفاشية.

لقد جاءت هذه المظاهرات الشعبية الحاشدة ليست لتأييد المصالحة الوطنية فحسب، بل لإعلان تصميمها على إسقاط المشروع الاستبدادي الديني، الذي يخفي وراءه الهيمنة الإمبريالية والصهيونية، والرساميل الطفيلية والريعية المرتبطة بالخارج، كما يخفي وراءه الحقد الأسود على تراث سورية العظيم وإرثها التاريخي الغارق في القِدم، دلّ على كل ذلك التحطيم الممنهج لآثار سورية، ولرموز ثقافية وفلسفية ذاع صيتها في العالم قاطبة، مثل تمثالَيْ أبي العلاء المعري وأبي تمام، وسرقة الآثار والمتاحف والأضرحة والرموز الدينية في المساجد والكنائس، والأفظع من سرقة النفط والقمح، هو إصدار فتاوى سخيفة لا يصدقها أحد، وغير مستندة إلى أي أصل لها في الكتب السماوية، وهي تثير الاشمئزاز لدى الأكثرية الساحقة من الشعب الذي يعتز بتاريخه وإرثه الثقافي والديني.

إن عملاً كبيراً ينتظرنا نحن الفئات العلمانية في المجتمع لإزالة الغشاوة عن عقول بعض من تأثروا بأضاليل أصحاب الفتاوى المزيفة، وخاصة الشبان الصغار منهم الذين وقعوا في حبائلهم.. وتقع اللائمة على السلطة التي لم تساعد طوال 40 عاماً على تسهيل نشر الفكر العلماني والمستنير، بل بالعكس كان الباب مفتوحاً على مصراعيه للتيارات الدينية المتعصبة، وكان كل ذلك يشكل الأرضية الممهدة للانتقال بهذه التيارات إلى مرحلة التكفير، ومن ثم الإجرام.

ونعود للقول إن إطلاق حملة المصالحة الوطنية، ونجاح ألوف المواطنين في تنظيم مظاهرات عفوية تنادي بالوحدة الوطنية، وبعودة الإخاء بين أبناء الشعب الواحد، وبالديمقراطية، واستعداد أعداد كبيرة من الشباب المغرر بهم لتسليم أسلحتهم إلى الدولة، والإسراع في إطلاق سراح المعتقلين الذين لم يرتكبوا جرائم القتل، وتشجيع الشباب الذين كانوا منخرطين في الأحداث عن طريق الحوار المنفتح معهم على الدخول في معترك الحياة السياسية من خلال الأحزاب التي يرغبون في الانضمام إليها.. إن كل ذلك يرسم صورة أولية عن شكل حياتنا السياسية القادمة التي يطالب بها الشعب، الذي لم يعد يقبل بحياة سياسية معلّبة، تحدد الأجهزة الأمنية فقط، حدود تحرّكها ونشاطاتها.. وسيظل الشعب السوري يناضل من أجل الوصول إلى الدولة المدنية الديمقراطية جنباً إلى جنب مع إسقاط مشروع الدولة الدينية المستبدة، ومشروع الهيمنة الإمبريالية والصهيونية على منطقتنا العربية.

العدد 1105 - 01/5/2024