مجنون يحكي
يراودني أحياناً هاجس بأن أمسك هذا الكون من أذنيه، وأهزّ رأسه بعنف حتى يدوخ. ربما يعود إلى صحوه. أو أن أرفسه على ظهره لـ (يكبخ) ويفيق من غيبوبته، فيجدد نفسه كل حين، فقد امتلأ بكل مسوّغات التجديد. إذ لا شاعر يُزفّ إليه وطن، ولا وطن يهتدي إلى شاعر، وكأن القطيعة قضاء لا رادّ له. لا النساء يتلألأن كما كنّ دائماً، ولا الرجال يعتزّون بـ (شنباتهم). كون يتشظّى مهرولاً إلى قيامته، وآلهة من جميع الأنواع، معلّبة، تنتظر عبادها، ولا أحد، لا أحد.
البرتقال الهجين هجر اصفراره، والأنهار (تقرقع) كالمزاريب. سطوح قريتنا القديمة تعنّ ببالي، متشققة، والأولاد فوقها يدحلون. السماء لن تمطر هذا الشتاء، وربما الشتاءات القادمة أيضاً ستكون ضحلة. يحق للسماء أن تتمرّد، هي تشبهني حين تكثف غيومها ثم تصحو على جفاف. أنا أيضاً كذلك، أتجهم وأمتلئ بالغضب، ثم أقهقه ساخراً من نفسي.
كيف لقصيدة أن تلجم الريح؟ وللريح أن تكنس الأرض؟ وللأرض أن تعود إلى دورانها المنضبط؟ كيف ذلك؟ والقصيدة ما زالت مثل كرة في ملعب، اللاعبون (يشوطون)، ويشاغبون ويرفسون، والمتنبي يمسح لحيته، ثم يقف حارساً للمرمى. وأنا لست المتفرّج الوحيد والحيادي، الذي ينتظر لعبة جميلة.
ستصل أشعة الشمس ذات صباح إلينا، وسنتشمّس كثيراً حالمين بكون آخر أكثر خضرة، وأقلّ آلهة. أكثر قصائد، وأقلّ شعراء. ستعبر عصافير الدوري كالشهب فوق الشرفات، ويترامح الجيران بتحيات الصباح، صباح آخر جميل. أجل هكذا أظن. لا أريد لأحد أن يتهمني بالحلم، فأنا لا أعرفه، ولا بالأمل، فلست (محكوماً به)، ولن أكون متجنّياً على الحركة المسرحية حين أزعم أننا سنبحث كثيراً عن كومبارس ولن نجد. سيزعل الكبير سعد الله ونوس ويهجر مسرحه. عندئذ سأضطر إلى أن أمسك الكون بأذنيه و…، أو أرفسه ليفيق.
سيجيء زمان، لا الأمير يبقى أميراً، فقد يرتقي، ولا الرؤوس تبقى مكانها بعدما يرتقي الأمير. يا ألله ما أصعب تلك التحوّلات! حين يجيء الزمان الأرعن ليضبط زماناً أكثر رعونة، حينذاك كيف سيصير العالم؟ علّمنا شاعر حالم أن الحديد لا يفلّه إلا الحديد، وعلمني أبي أن أسحب لقمتي من فم السبع. سأفعل ذلك إذا بقي رأسي مكانه، وحين أتيقّن أيضاً من صدق شاعرنا الحالم.
الكون المتشظي بكل ما يحمل من فوضى سيعيد إلينا أزمنة حافلة بالشعارات، نرددها كما كنا نردد شعاراتنا القديمة منذ تعلّمنا الكلام، وما زال أطفالنا أيضاً يرددونها. سأعتذر من أستاذنا سعد الله، فلن أكون محكوماً بالأمل، لكنني سأجعل أطفالي يقرؤون كل ما كتبه، ويقرؤون قصائد الشاعر الحديدي. سأعلمهم كيف يأخذون أماكنهم في الملعب، يركلون ويرفسون ساخرين من كسل جدّهم المتنبي وقد قضى عمره حارساً لمرمى سرقه الشعراء من خلفه، وانفتح الملعب على الجهات كلها.
ولأنني تعلّمت أن الأوطان لا تُباع، رحت أتذكّر من علمني ذلك، امتلأت ذاكرتي بالمعلمين بدءاً من سيدنا آدم، وانتهاء بحفيدي الذي لم يأت بعد، فلا أكثر من المعلمين لدينا. ولأنني تعلمت ذلك، أيام كنت قادراً على التعلّم، فقد أحببت وطني كثيراً، وطني الذي لا يُباع. كان الوطن يومذاك غرفتين من طين، أصعد سطحهما وأجرّ المدحلة بداية كل شتاء. وربما يمتد قليلاً لأضمّ إليه بعض الحواكير، وباقة من أزهار بريّة أجمعها من الحرش القريب. لم يكن الكون قد شاخ بعد، ولم أكن متمرداً على الأحلام والأمنيات والآمال. أما الآن وقد ملأني كون أرعن، وأزمنة متهدّلة، وضاق عليّ وطن صغير من غرفة واحدة بسطح صفيحي، معلّق هناك، تحت الغيم بقليل، سأعرضه للبيع، لأنني مللت الانتظار، انتظار موسيقا الشتاء تعزفها حبات المطر على سطح وطني المرهون لأصيافٍ تناوبته، وتوارثته صيفاً عن صيف.
سأبحث عن وطن توصلني إليه دروب موحلة، ينتظرني فيه أصدقائي الشعراء، وقد جهّزوا قصائدهم، وبطحات العرق، وصمتاً ممتلئاً بالقصائد، وحين يعبر جدنا المتنبي سيكتشف أنه كان يحرس الهواء، وسعد الله الذي نمنم التاريخ، وسهر كثيراً مع أبي خليل القباني، سيكتشف أن رائحة الوطن تهرب يوماً بعد يوم عبر بواباته المتنحية. سنكتشف جميعنا ونحن ننتظر وطناً أجمل برائحة طيّبة وتراب بكر، سنكتشف عبثيّة أننا محكومون بالأمل.