ثقافة المفتاح

منذ ستة عقود ونيّف، أصبحت ثقافة النزوح في المنطقة العربية أكثر انتشاراً. وكل ربّ أسرة يحمل مفتاح منزله في تيه نزوحه ويحتفظ به، في مكان آمن ويخبّئه في قلبه، أو تخبّئه زوجته في حزامها الذي نسجته بيديها من صوف نعاجها، أو من وبر الجمال وشعر الماعز.

وجرَّبت أجيال عدة تجربة النزوح في أعوام (48 و67 و82 و2006و 2012). وإن تغيّرت الأقفال، فالمفاتيح ما زالت هي نفسها لم تتغير. وإن تبدّلت الأبواب وألوانها فأشكالها ونوع أخشابها لا تزال راسخة في ذاكرات هذه الجموع البشرية في فلسطين والعراق ولبنان وسورية.

أصبح المفتاح رمزاً لذاكرة المكان، والهاجس اليومي للعودة إلى الأوطان، وإلى المدن والقرى والمزارع. وفي المفتاح تتعدد القراءات والتأويلات والتفسيرات، وتتراكم أحلام الناس في هذه القطعة الحديدية الصغيرة.. وتتناقل الأجيال التي ولدت في مكان النزوح، حكايات البيوت والكروم والمدارس ومطاردة الأعداء، والبطولات التي سُجّلت في هذه العقود.

كثيرون تركوا مفاتيح بيوتهم، واستقروا في المكان الجديد، بانتظار العودة، وابتاع الأغنياء منهم بيوتاً لهم، وتأقلموا بسرعة مع الواقع الجديد، و(دوكروا) منازلهم الجديدة على هواهم وصنعوا أقفالها ومفاتيحها بما يتناسب مع الحداثة، وتعايشوا مع البيئة والعادات والثقافة السائدة. ولم يبق عندهم من ثقافة النزوح إلاَّ القليل! أما الأكثرية الساحقة فقد احتفظت بمفاتيح البيوت والقلوب. وكل يوم يستعيدون ذكرياتهم من أفراح وأحزان. ورسموها على الرمال وحفروها على الصخور أو طبعوها على أذرعهم.

وتحمل ثقافة النزوح الغربة والشعور بالخيبة والانكسارات المُرَّة والتشرد، وما ألحقت بهم الهجرة القسرية من أذى وآلام للروح والجسد، خاصة من قطعان المستوطنين في فلسطين، ومن الحروب وما نتج عنها من تهديم للبيوت وتغيير لأسماء القرى ولجغرافيتها، إذ لم يبق لها أثر إلاَّ في الأحلام والدموع والذكريات.

حدثني أبو زياد (مختار القصير) الذي نزح من بلدته إلى دمشق، بسبب تهديد المسلحين اليومي له ولأسرته وأهله، فحمل ما استطاع حمله من أغراض وحاجات، وترك نسخة من مفاتيح بيته عند جاره الطّيب، الذي حافظ عليه قدر الإمكان من لصوص الأزمات. وفتح طاقة بين البيتين ونقل الأدوات الكهربائية إلى منزله خوفاً من سرقتها، لكن البيت لم يسلم من السرقة. فاللصوص كسروا الباب ودخلوا وأكلوا وشربوا وتركوا بقايا طعام على الطاولة وزجاجات فارغة. وأخرج أبو زياد نسخة ثانية من مفاتيح بيته ومحل الغاز الذي نهبه المسلحون وأصبح خاوياً، ولوّح بها بأمل العودة إلى مدينته بعد تحريرها من التكفيريين. وحدّثني أبو زياد عن الدمار والخراب والنهب والقتل والاغتيال وعمليات الخطف، وإحراق المؤسسات والدوائر الحكومية وإتلاف المحاصيل والأشجار المثمرة.. ورغم هذه المآسي والأحزان كان أبو زياد يبتسم تارة.. وأنا أتأمل شروده.. أحاول أن أنزع الصور الحيَّة من مخيّلته لأحتفظ بها في ذاكرتي، لكني فشلت في نقلها كما هي!

إن المفاتيح المصنوعة من الحديد أو من النحاس والذهب، للبيوت المتواضعة أو للفيلات والقصور.. في الأحياء الراقية أو في الأحياء العشوائية، لها الثمن نفسه بالنسبة لمالكيها. وإذا كان كل بيت له مفاتيحه فكل أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية لها مفاتيحها أيضاً.. كما أن للقلوب مفاتيحها الخاصة بها!

 

العدد 1102 - 03/4/2024