آذانٌ صدئة.. وعيون يقتلها الرمد!

في البداية اسمحوا لي أن أخبركم أنني لا أمثّل أحداً ولا أنتمي إلى هيئة أو منظمة أو حلف أو تحالف أو لجنة أو جمعية أو مرجعية. بل كل ما في الأمر أنني قررت أن أسمي الأشياء بأسمائها، بعد أن أوصلتني الأحداث، التي ما كنت أظنها قادرة على التأثير بي ولو نسبياً، إلى الحالة التي أنا بها الآن من القرف والاشمئزاز واليأس بسبب ما كان وما صار.

لا أريد من أحد على وجه البسيطة أن يعلمني كيف تكون الوطنية، ولا حتى أن يوضح لي بعض أشكالها وماهيتها وشيئاً من مظاهرها وترفها. ولا أسمح لأحد بأن ينعتني بالمعارض بسبب بعض طقوسي وممارساتي وأفكاري فيما يتعلق بتفسير حالة وطنية ما.. ولا حتى بالموالي بسبب تفسير حالة وطنية أخرى تناقض الحالة الأولى.

أنا لم أكن في يوم من الأيام قادراً على  طرح ما أريد طرحه الآن، ولا حتى  مجرّد التفكير به، لأن هناك فكرة راسخة في عقلي رسوخ جبل الشيخ وتلازمني على الدوام، إذ تعلمت أن للجدران وللأبواب والشبابيك وخزانة الملابس والسرير والشجرة في الشارع آذاناً، وكنت أمشي وأنا التفت يميناً وشمالاً خوفاً من أذن هنا أو عين هناك.

كنت أسمع على الدوام أن هناك من يراقب ويتنصت، ويتابع ويخطط، ويدقق ويفتش، ويراسل ويكتب، ويرسم الخطط المحكمة التي لا يمكن للجن الأزرق أو حتى الجن الأخضر أن يخترقها. وأن هناك من يعرفنا دون أن نعرفه ومن يرانا دون أن نراه، ومن يسمعنا دون أن نسمعه، ومن يراقبنا دون أن نحسّ به، ومن يتابع خطواتنا وهمساتنا ودندناتنا وشعاراتنا ومواويلنا وأحاديثنا التي نصرّح بها، أو تلك التي نحكيها في سرّنا. وأن هناك من يعرف لون عيوننا وطول شعرنا والزمرة الدموية لنا والعلامات الفارقة التي تميزنا، وأكثر من ذلك هناك من يعرف عدد الخطوط المتعرجة في بصمة كل شخص منّا.

وأن هناك من يعرف ماذا نأكل، وأوقات غدائنا وإفطارنا وعشائنا ومشروبنا الروحي وغير الروحي، ونوع التبغ الذي ندخنه وعدد السجائر التي ندخنها في كل يوم وليلة وأسباب إقلاعنا عنه في حال تركناه، ونوع العطر الذي نستخدمه، وحتى ما ندّخر في براداتنا وما تحويه خزانة المونة من مكدوس وزيتون وعيطون وشنكليش ونوع الزعتر والفول اليابس والحمّص بأنواعه والزبدة والجبنة إن وجدت، ويعرف سبب عدم وجودها، ويسمع زقزقة العصافير في أمعائنا أواخر الليل. وأن هناك من يحصي علينا عدد المرات التي ندخل بها إلى الحمّام، وعدد المرات التي ننام بها مع زوجاتنا، ومن منهن قادرة على الإنجاب ومن بلغت سن اليأس، وماذا ستضع الحامل منهن، ومن نزور ومع من نتسامر، وعلى أي جهة ننام، وكمية الأوكسجين التي نستهلكها. وكنت أقول في سرّي إن كل هذا هو في خدمتي أنا المواطن الذي على الدولة أن ترعاني وتحافظ على وجودي وعلى صحتي وعلى ثبات عقلي، كي أتمكن من تحديد مواقفي الوطنية تحديداً صحيحاً.

كنت أدسّ جسدي في الفراش، وأنتظر إطفاء النور وصمت الضجيج في الشارع، كي أمرّر أمام عيني شريط ما التقطته في نهاري. وأتساءل عمّن أتخمتهم الثروة والمال وسبائك الذهب، فامتلكوا العقارات والسيارات والمحال التجارية الضخمة، وفازوا في المزايدات والمناقصات وفضّوا العروض لصالحهم، واحتلوا المناصب الرفيعة وتنقلوا بين المواقع الهامة لا على الجبهة بل في الوظائف الحكومية والمكاتب الوثيرة، وتربعوا على ملايين الليرات السورية من ثمن قوتنا ولعب أطفالنا.وأسالوا دمنا رغبة في رؤية اللون الأحمر، وأبكوا عيوننا رغبة في رؤية الدموع والمخاط!

كنت أحاول أن أرسم صورة ما لكل ما يجري في داخلي من ضجيج، فتبدو الصورة مهترئة الحواف محطمة الإطار تتآكل من الداخل والخارج، فأحاول أن أصرخ منبهاً ومحذراً من خطورة ما أرى، لكن كانت العيون تترصدني والآذان تنتظر همسة واحدة مني كي تسحبني من لساني إلى ظلمة أشد من ظلمتي التي أعيشها تحت الغطاء.

الآن.. أقف على قمة هشاشتي، وأنظر يميناً وشمالاً وغرباً وشرقاً، فلا أرى أذناً إلاّ ويملؤها الصملاخ، ولا أرى عيوناً إلاً وقد أصابها الرمد، وأرى أبنية شمخت يعلوها الغبار، وكروشاً انتفخت تتلاطم كبحر يعجّ بالجيف، وأرى أوراقاً وتقارير تتطاير، ومحابر جف حبرها، وأقلاماً لا تعرف الحروف.. أتساءل عمّن أعطيناهم ثقتنا ولمّعت صورهم كيف غدروا بالوطن عند أول حفنة من المال. وأتساءل عمّن أحصينا عليهم رفة أهدابهم وحاصرناهم في غرف نومهم كيف حملوا أرواحهم على أكفهم واندفعوا يذودون عن الوطن.

الآن أتذكر تلك الخزعبلات التي كنا نتعلّق بجدائلها الواهنة، عن أشخاص لا ينامون يعرفون كيف ننام وماذا نأكل ونشرب، ويعرفون سرّنا ونجوانا، وكم هو حجم الهواء الداخل والخارج إلى جوفنا الصدري، الذي باتت حشرجته ترتفع وترتفع في وجه من باعوا أنفسهم وباعونا بحفنة من الدراهم. لنسأل بعد كل هذا: ألم يحن الوقت لنا أن نغير طريقة تعاطينا مع الآخر، ونبتعد عن طريقة الاختيار الخاطئة والكارثية المبنية على التقارير والمحسوبيات عند اختيار من يشغلون المناصب الهامة في الدولة؟!. أما من عقاب وحساب يعيد هؤلاء إلى الزواريب التي لفظتهم ويمنعهم من التمتع بثرواتهم التي كسبوها بسبب فسادهم وإفسادهم، إكراماً لدموع كل أم  ثكلى، وبكاء كل طفل يتيم، وحرقة قلب كل زوجة؟! نأمل أن نرى ذلك قريباً.. وقريباً جداً!

العدد 1104 - 24/4/2024