المبشرون الليبراليون الجدد

ليس من قبيل الدعاية كان توصيفنا لمنظومة القيم الثقافية التي حكمت عالمنا منذ نهاية الحرب الباردة بالعولمة أو الليبرالية المتوحشة، فتلك الحقيقة أكدتها وتؤكدها كل يوم جملة من الفواجع الناجمة عن فرض تلك المنظومة على مجتمعات العالم، وهي لم تكتفِ بإفقاد المجتمعات هويتها ومعالمها الشخصية وسيادتها وخصوصيتها ولا بصناعة وعي ملحق لا تقوم الصلة بينه وبين بيئته التاريخية، بل إن تغذية العولمة الأمريكية روح العنف والميول العنصرية الرجعية أنتجت انتهاكات سوبر سادية لإنسانية الانسان، غير مسبوقة في فظاعاتها وخاصة في المشهد السوري، الذبح وتقطيع رؤوس وأطراف وإحراق الناس أحياء ونهش الأكباد البشرية النيئة واختطاف النساء والأطفال وعمليات التعذيب المروعة المدفوعة بنار الأحقاد المذهبية والطائفية، مترافقة مع جرائم تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة والبنى التحتية وغير ذلك مما ارتكبه سفاحون وقطاع طرق وُصفوا بالثوار المقاتلين من أجل الحرية والديمقراطية، صعقت كل ذي ضمير حي في العالم.

فقد ذكر الكاتب الفرنسي جاك لورنيل على سبيل المثال لا الحصر أن (التاريخ لا ينسى ولن يرحم تلك الشعوب التي سلمت بلادها للغرباء وكانت سبباً في تدمير أوطانها وقتل جيوشها) مع التحفظ طبعاً على الالتباس الذي يشوب عبارته، فالتاريخ حقيقة لا ينسى ولن يرحم من ضلل تلك الشعوب وغرر بها وتلاعب بوعيها، والشعب السوري العريق بانتمائه الوطني وتضحياته من أجل قضية فلسطين المركزية ومقارعة الاستعمار وإحباط مؤامراته قد وقع ضحية لأكبر عملية تضليل مبيتة شاركت في تنفيذها مختلف وسائل التعبئة النفسية وعلى رأسها الاعلام والتبشير الذي مارسه بعض من النخب مستغلين حالة استياء الجماهير من سياسات داخلية متناقضة مع مصالحها فشلت في كسبها والحفاظ على تراثها المقاوم.

كيف انقلبت شريحة من فقراء سورية من الإجماع على النضال والتضحية بالأرواح للذود عن وطن يحميهم في زمن الثقافة التقدمية، إلى قتلة يخدمون مشاريع خارجية مضحين بوطن همشهم في زمن ثقافة العولمة المتوحشة؟ كيف خُرق وعي هذه الشريحة المهمشة؟ ومن جرّها إلى جبهات بديلة لجبهتها الاساسية؟ من يتحمل مسؤولية قلب مفاهيم الصراع ومن هم المبشرون الليبراليون الجدد الموجودون بيننا؟

قبل التعرف على رموز الخرق لا بد من توضيح خريطة مجتمع النخبة حسب تأثره بالثقافة الغربية، فقد صنف د. عبد الإله بلقزيز في كتابه (العولمة والممانعة) هذا المجتمع كتيار انبهاري بالغرب الثقافي، وتيار رفضوي مستنفر ضده، وتيار تثاقف نقدي، والمقصود بالأخير التيار الذي ينهل من ثمرات الثقافة الغربية وغيرها مع الاحتفاظ بحق نقدها ومساءلتها وإخضاعها للحاجات المحلية، بينما يقوم فكر التيار الثاني الرفضوي على مبدأ الإشباع الذاتي والتشديد على أطروحة الخصوصية العربية الإسلامية، فهو تيار يحيط عزلته الفكرية بالمزيد من أسباب تنمية الانكفاء والتشرنق المرَضي على الذات، ويمثل أعلى مراحل النكوصية في الثقافة العربية. أما التيار الأول وهو مدخلنا إلى موضوعنا فهو تيار يؤسس شرعية خطابه على مقولة كونية الثقافة ويتخذ من الثقافة الغربية مرجعية، يقف أمامها بذهول واندهاش واستسلام لسطوتها، فيلعب دوراً رسولياً ويبشر بها نظاماً فكرياً للعالم، لكنه في واقع الأمر لا يفعل سوى ترديد مفرداتها.

إلى هذا التيار الانبهاري تحديداً ينتمي المستثقفون الليبراليون الجدد كأدوات مبشرة بالعولمة المتوحشة، وبضمنهم نخب عرفت تاريخياً بانتماءاتها اليسارية كجلال صادق العظم الذي لم يعد ناقد الفكر الديني كما عرفه الوسط العلماني التقدمي السوري، وقد طرح في مقال الدكتور سمير بسباس – المثقف العربي والعولمة- مثلاً كأبرز رموز الأمركة بين الليبراليين العرب، إلى جانب اللبناني علي حرب، والتونسي هشام جعيط، وركز المقال على الأصداء المرددة من أطروحتي فوكوياما وهانتنغتون في كتابات هؤلاء، وخاصة ما يتعلق بنهاية التاريخ وعدم حاجة عصر العولمة للمثقف بحجة أن الجميع في المجتمعات الغربية مثقفون، لكن جلال صادق العظم الذي يردد ذلك أيضا أضاف ضرورة وجود المثقف في مجتمعات الشرق لدفعها إلى الأمام، ورأى في العولمة الأمريكية نقلة نوعية، وإعادة صياغة لمجتمعات الأطراف، ونفى عنها صفة المؤامرة قائلاً: (من الخطأ وصف العولمة بالمؤامرة فهي طور جديد له خصوصيته)، ومع أن أهم مفكري عالمنا اليوم ونقاده أصحاب الوجدان الانساني والضمير الحي من تيري إيغلتون إلى نعوم تشومسكي إلى ميشيل شودوفسكي وجوزيف ستيغليتز وسمير أمين وغيرهم أجمعوا على وحشية العولمة الأمريكية كأعلى درجة في علاقات (الهيمنة – التبعية) الإمبريالية، وبأنها فعل اغتصاب وعدوان أو كما وصفها الكاتب الماركسي الكندي أرك ولبرغ – إمبريالية ما بعد الحداثة، لكن الاستسلام لثقافة القوة هو التفسير الأرجح لانبهار جلال صادق العظم وتماهيه مع نظرية التفوق عند فوكوياما والتمييز العنصري بين مجتمعات الغرب ومجتمعات الشرق، لحجز مقعد الصدارة في قاطرة المبشرين الهابطين من جنة الغرب لخلاص جهلة الشرق ومتخلفيه، وهذا ليس التماهي الأخبث بل يتجاوزه تماهٍ جوهري تضليلي أكثر انحطاطاً وفتكاً، ففي حين استخدم فوكوياما الجدل الهيغلي كقوة دافعة لحركة التاريخ في التأكيد على أن الليبرالية الجديدة هي نهاية التطور الإيديولوجي وضرورة عولمتها بالقوة، فإن جلال صادق العظم طوع للهدف ذاته مفردات المادية الديالكتيكية والتاريخية، فلسفة الطبقة العاملة وأحزابها للإيحاء بأن العولمة المفروضة بالقوة هي نقلة نوعية ناجمة عن تراكم كمي وليست مؤامرة، فقد أسقطت مقولة لينين (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية).

وهنا يصل تزييف قيم العدالة الاجتماعية والفكر الماركسي والتاريخ أقصى فظاظته، فتبدو عملية أمركة العالم ثورة عالمية تقدمية معرفية فيلسوفها فوكوياما الذي رد عليه د. سمير أمين باستخفاف بأن أي حديث عن نهاية التاريخ لا معنى له لأن التاريخ مستمر. في الوقت نفسه حين كان العظم ينصب فوكوياما على العرش النظري لماركس ولينين نافياً الصفة الاستعمارية عن العولمة ومتغاضياً عن مصير ضحاياها وعن المساواة بين البشر وو.. الخ. متهما قوى اليسار الممانعة لوحشية العولمة التي لم تذعن للغطرسة وثقافة القوة، بالتعصب والميل إلى المواقف ذات الطابع (الطالباني – الجهادي) حسب تعبيره في حواره مع (مجموعة الجمهورية) بتاريخ 10/1/2013 محاولاً تبرير دقّه المسمار الأخير في نعش نقده للفكر الديني، في تماهٍ آخر مع صراع الحضارات –هانتنغتون – في محاضراته الأخيرة ببرلين ومنها ( العلمانية والمسألة الدينية) وما تضمنته من لغة شوارع مذهبية مبتذلة، مبطنة بوشاح أدبي فكري يتقن كثيراً فن حبكه وتجميله.

أصداء مرددة من فوكوياما وهانتنغتون نجدها في كتابات ليبراليين جدد آخرين كبرهان غليون وعزمي بشارة اللذين تجاوزت مهمتهما التبشير نحو تكريس أمركة العالم ميدانياً في الذهنية العربية عن طريق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي أسسه آل ثاني وموّلوه واستدرجوا إليه بعض النخب السورية المعارضة لتزويدها بالتعليمات حول كيفية تقويض الدولة السورية، كما يدير عزمي بشارة فضائية وجريدة وموقع العربي الجديد الإلكتروني التحريضي، حيث استأجر له خلايا من الكتاب والصحفيين والروائيين والشعراء في مهمة خلق محميات معولمة أمريكياً داخل المجتمع السوري تتلقن وتلقن فلسفة اللجوء إلى التدمير الذاتي وتستخدم أحط أشكال الخطاب السياسي المغلف بالملفات الانسانية لقلب مفاهيم الصراع وتوجيه عداء الرأي العام نحو الأهداف المرسومة في وزارة الخارجية الأمريكية، ولا أتجنى على أحد هنا فتماهي تيار المبهورين مع أطروحات فوكوياما وهانتنغتون وتسويقها ليست مسألة ترف فكري ولا تسويقاً للمعرفة أو إغناء حياة البشر الثقافية، ولا حتى مجالاً للحوار بين آراء متنوعة في حقول حرية التعبير وحق الاختلاف، إنما هو تسويق للسياسة الخارجية الأمريكية التي شغل فوكوياما فيها منصب مدير التخطيط السياسي واسمه مرتبط بالمحافظين الجدد ولعبت أفكاره دوراً كبيراً في سياساتهم، وأستاذه هنتنغتون هو من أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن الماضي، وتضمّن كتابه (صراع الحضارات) كيفية تقاطع الشؤون العسكرية مع المجال السياسي، وهو القائل (نخب مثقفة في دول غير غربية ستعمل على تقارب بلدانها مع الغرب) وهو مخطط أمني ومستشار رئاسي. ولذلك فالنتائج الكارثية التي طالت مصير حياة ملايين من ضحايا التوسع الليبرالي المتوحش ووعيهم وثقافتهم وأمنهم الاجتماعي وحقوق الدول المنتمين إليها- تضع المبشرين بالعولمة الأمريكية المتوحشة موضع المساءلة القانونية من جهة، وعلى خط المواجهة الطويلة مع ثقافة المقاومة والممانعة من جهة ثانية.

أيها المنصاعون المبشرون الليبراليون الجدد.. أنتم رسل العولمة المتوحشة، أنتم ضلّلتم وجنّدتم وضحيتم بفقراء بلدنا، وأنتم نشرتم الموت والخراب، والتاريخ لن يرحمكم.

العدد 1105 - 01/5/2024