من أين أبدأ؟
يبدو أن البدايات المتداخلة التي تعصف في الرأس تدفعك إلى البداية، ولكن من أين ؟ يبدو أن البدايات لا توجد إلا في مخيلة الإنسان، يعتقد بها ويمارسها دون أن يعرف كيف ومتى ومن أين كانت البداية. ومثل البدايات تأتي النهايات، فهما لا يمكن أن يكونا إلا في الخط المستقيم ذاته. والخطوط المستقيمة لا توجد إلا في الأوهام والتصورات أو على وريقات نسطر فيها تأملاتنا وآمالنا. أما في الكون وعلى مسرح الحياة فكل شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ، ويتداخل مع ما به اتصل. ويتوالى الأمر الواحد تلو سابقه فتتسع دائرته لتتداخل في الأمر الآخر لتتفرع عنه دائرة جديدة تتداخل أيضاً مع ما قبلها وما بعدها. ولا تمتلئ دائرة الحياة بل تستمر في الدوران إلى اللانهاية وتتداخل مع محيطها البدايات مع النهايات. كل الدوائر تدور في رأسي تعتصر فيّ وتحتشد الذكريات دوامات متتالية تتحدث بلغة أفهمها حيناً، ولا أفهمها حيناً، فمن أين أبدأ؟
جئت إلى الحياة في ليلة مظلمة باردة، لا أعرف من أين وكيف! إلا أن دائرة عمري تداخلت مع دائرة الحياة، وبدأت الدوران حول مركزها. وقد بلغت من العمر عتياً، لا أعرف كيف يكون الخروج من هذه الدائرة، أم أنها ستتداخل مع دائرة أخرى لا يعرفها أحد منا. إلا أن أيامي البعيدة تلمع في سماء ذاكرتي كحلم لا يريد أن تنطفئ. وصارت معها المواضيع والأزمان نائية موغلة في البعد ولا تزال الأسئلة تذهب بي بعيداً ثم تعود إلى أرض الواقع الذي أنا فيه.
هل كنت حقاً طفلاً في دائرة العمر؟ لم تكن أمي قادرة على منحي كل حنانها وحبها لعدم توفر الوقت، إذ كانت غارقة في بحر أعمالها خارج البيت وداخله. كنت أحس الدفء في حضنها، ولكنها لم تكن تطيل احتضاني، بل كانت سريعاً ما تغادرني والدموع تتساقط من عينيها. ولم أكن أدرك ماذا تعني هذه الدموع، كما كنت أشم رائحة التراب، أتذوق طعم الطين، عندما كانت تلمسني بأصابعها الهزيلة أو تطعمني بيديها بعد عودتها من الحقل. أشبعت أمي غريزة الأمومة مع إخوتي، بعد أن بدأنا نحن الكبار نؤدي بعض الأعمال عنها، ولم تعد الدموع تتساقط من عينيها. وهنا أدركت معنى دموعها، في ذلك الزمن كما أصبحت أصابعها لماعة كالياقوت ويدها بيضاء كالحليب. وهنا أدركت أن رائحة التراب هي عبير الورد، وطعم التراب هو طعم العسل. وعندما أصبحت قادراً على ممارسة ما تفرضه عليَّ دائرة الطفولة لم يكن أمامي شيء من أدوات ووسائل هذه الممارسة سوى التراشق مع أقراني بالحصى في أزقة القرية، فهل تداخلت دائرة طفولتي مع دائرة الحياة؟
هل دخلت دائرة المراهقة والشباب؟ لم يكن والدي قادراً على تقديم ما أحتاجه لهذه المرحلة، ولم يكن يهتم بما أقوم به سوى سؤالي إن كنت قد أديت هذا العمل أو ذاك في البيت أو في الحقل. ولم يسألني ولو لمرة واحدة عما أقوم به في المدرسة، وإذا كنت أؤدي واجباتي المدرسية. وكنت أدرك الأسباب التي تدعوه لذلك (أصبح أكثر حميمية وقرباً مني ومن إخوتي بعد أن تخفف من بعض أعماله في رعاية العائلة)، فهل كنت شاباً مراهقاً حقاً؟
غادرت منزل والدي إلى ساحة العمل، وبدأت دائرة العمر تدور وتدفعني إلى الأمام لبناء المستقبل بعد أن بلغت سن النضوج. وبدأت التدحرج على محيط الدائرة لا أعرف متى أبدأ ومن أين ولا متى أنتهي وأين. تداخلت هذه الدائرة مع التي قبلها وما بعدها. وأنا الآن أدور على محيط دائرة الامتلاء، ولا أعرف متى يتم التفريغ.
تذكرت دوائر العمر وأنا أرى ما يجري على أرض وطني الذي ولدت على ترابه، وعشت في حقوله وبساتينه وحدائقه، وأحببت كل من قابلته في طريق عمري كما أحبوني هم. وكان الوطن أغلى ما نتحدث عنه ونتغزل به، فشعرت ألما في رأسي وغبشاً في عيني وطنيناً في أذني، وبدأت أكلم ذاتي ولا أسمع. وكان أبناء وطني يتكلمون عن السماء ينزلونها إلى الأرض ويصبون عليها رصاصهم من على السطوح.
دفعني هذا الصوت النشاز الخارج عن المألوف للنظر من النافذة، فلم أر أماً تمارس الحب مع أطفالها، ولم أر أباً يتأبط ذراع أبنائه ليذهب بهم إلى ملاعب الطفولة، بل كان يخبئهم في ذاته ليوصلهم إلى مدارسهم. ولم أر شاباً وشابة يتبادلان رسائل الحب بعيونهم وهم يضحكون، بل رأيت البعض يلمس السماء فيأخذ شمسها وفجرها ونجومها ويسرق غيمها وضياءها، ولا يحس حنانها وعطفها ودفأها، ويعود إلى الأرض يحرق شجرها ووردها ويقبض رماد ما حرق، وهو يدعي الصلاح والإصلاح. كاذبون مخادعون سارقون. هل دخل هؤلاء دائرة الحياة؟
بينما البعض يصلي (المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة).
من أين أبدأ؟ من دعاء إلى رب السماء والأرض، أحمدك ربي وأثق بك كريماً عادلاً، أحب مخلوقاتك من بشر وحيوان ونبات، أدعوك الرحمة والرأفة بمخلوقاتك البشرية، وإعادة الذين باعوا عقولهم في سوق النخاسة إلى رشدهم لأنهم لن يحصلوا على (قبض الريح). وهناك كل أبناء وطني الشرفاء ينادونك معي. من أين أبدأ؟ من مناشدة أخي في الإنسانية؟ أحبك أخي وأحب لك طفولة سعيدة وشباباً زاهراً ورجولة مثمرة وكهولة طيبة مريحة. أناشدك الرأفة بأخيك الإنسان وأدعوك إلى العودة إلى حضن الوطن الدافئ، بجانب أبناء وطنك. لأن كل الأحضان باردة ما عدا حضن الوطن. عانق أخاك على أرض الوطن، وحلق معه في سماء الوطن، وليكن الحب شعار الجميع وهدفهم، فلا شيء يبني الأوطان سوى الحب.
من أين أبدأ؟ وأين سأنتهي؟ كل البدايات جيدة إذا أحسنا اختيارها، لتوصلنا إلى أحسن النهايات. لأن البدايات تتداخل مع النهايات، والنتائج تولد من رحم المقدمات. طوبى لمن اختار فأحسن، لأن الخالق وهبنا العقل وحرية الاختيار، وعلينا دفع الحساب. (طوبى لأنقياء القلوب فلهم ملكوت الله).