النقَّار

في كل تجمّع يضمّ ثلاثة أشخاص يوجد واحد نقَّار.. يقال هناك رجل نقَّار، أي بحَّاث عن الأمور والأخبار، كما جاء في(المعجم المدرسي).

وينقر المعلم رأس التلميذ لينبهه ويخلّصه من الشرود، وأحياناً النَقْرة تؤلم الرأس المنقور. والطير الجائع يتلذذ في النقر وهو يلتقط الحبَّ من الأرض. ونقول نقر فلاناً أي عابه واغتابه. وهذا ما يحدث يومياً في اللقاء الصباحي أو (الصُبْحية) بين الجارات اللواتي يلتقطن الأخبار وينقلنها وهي ساخنة، ويمكن أن يزدنها ويصنعن لها أجنحة لمساعدتها على الطيران.

وأجمل النقَّارين من يكون قادراً على تخفيف الآلام والأحزان، وفي مقدمتهم (الفكاهيون والساخرون) الذين يوظفون الحدث أو الخبر دون أن يمسوا الآخرين بالأذى. بينما يزداد عدد النقارين بين الأدباء، فلا أحد يعجب أحداً. فإذا اجتمعوا في سهرة أو ندوة فسرعان ما يظهر البارعون في النقر على الغائبين. ويتحول هؤلاء إلى ما يشبه نقَّار الخشب، فيفرغون الإبداع من مضمونه الإيجابي، ويحولونه إلى خربشات لا قيمة لها، كما يفرغ نقار الخشب ساق الشجرة من لبّها، فيصبح الغلاف الخارجي هشاً قابلاً للتفتت في أية لحظة.

وفي النقد الأدبي يسلّط النقَار(الناقد) قلمه ولسانه على الشاعر أو القاص والروائي، فيحفر السرد وينخّل النص أو يغربله بغربال (ميخائيل نعيمة) محاولاً فصل الحَبّ عن التبن والزّؤان. ومن يكون قريباً من الأديب المنقور، يسمع ضربات قلبه وتغيرات ملامح وجهه،خاصة إذا كان الناقد مسلحاً بالجُرأة وعدم التسامح مع الكاتب حتى ولو كانت بينهما معرفة وصداقة!

وهذا ما حصل في ندوة (الجولان في الرواية العربية) التي أقامتها جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب. فأحد النقاد الغيورين على النقد لم يبخل في تفكيك السرد الروائي لرواية (دفاتر الزفتية)، والمؤلف يجلس إلى جانبه ويبتسم ابتسامة تعبر عن خيبة أمل، وينظر إليه بحرقة وألم ويتمنَّى من قلبه لو أنه اختار نقَّاراً آخر، أقل خبرة وممارسة في النقد الأدبي، وأكثر قرباً من شاطئ الإنصاف. وأن يعرف أعماق المياه من النظرة الأولى. وكذلك مستوى النص الذي بين يديه ودرجة حرارة المياه. وهل الروائي تعلَّم السباحة مبكراً أو أنه حديث العهد، وكيف يقدّر الأعماق التي يمكن أن يسبح فيها، وهل تشكل خطراً على حياته؟

وفي أحايين كثيرة، وقد يحصل معي في كل ليلة، أن حلماً شائكاً ينقر في رأسي، كأنه يحمل معولاً ويحفر أرضاً صلبة تغطيها الصخور، فيزداد قلقي وتقلّبي على الجانبين، فأنهض خائفاً مذعوراً أتلمّس رأسي، ربما طلقة طائشة ثقبت زجاج النافذة ونقرتْ رأسي أو شظية هاربة تبحث عن مأوى لها في عظامي!

وينقر الغلاء رؤوس المواطنين.. وقال المتسوقون من الرجال، بدأنا نبحث عن سراويل دون جيوب. وإذا كانت رؤوسنا كالطبول تهشمت من كثرة النقر وازدياد عدد النقَّارين، فلا حاجة لنا بعد اليوم للجيوب الفارغة.

وقال أحد المدمنين على التسوّق وهو عائد من سوق الخضار، يلتهم سندويشة فلافل: لقد تركتُ رأسي على الوسادة وركّبتُ رأساً فارغاً وسليماً من النَّقْر!

العدد 1140 - 22/01/2025