الربيع الحقيقي… تجديد حركة التحرر الوطني (2 من 2)

كان  (التضامن العربي)، أي سياسة المصالحة بين الأنظمة العربية الرجعية، وفي مقدمتها السعودية، إحدى نتائج هزيمة حزيران 1967. وقد افتتحها الرئيس جمال عبد الناصر، وقتذاك، تعبيراً عن اختلال موازين القوى بين حركة التحرر الوطني العربية وأعدائها من العرب. وقد استمرت هذه السياسة، بعد رحيله، وتعززت، وخصوصاً بعد حرب تشرين وتدفُّق البترودولار، إلى الحد الذي نقل قيادة العالم العربي من القاهرة وبغداد ودمشق إلى الرياض، قبل أن يبلغ الانحطاط مداه وتحط الرحال في الدوحة. لكن، كانت هناك لحظة قصيرة واحدة، في  ،1990 حاول الرئيس صدام حسين فيها، كسر سياسة التضامن العربي من خلال احتلال الكويت، ضارباً عرض الحائط بموازين القوى الإقليمية والدولية، لحظة أدت إلى انتصار شامل معاكس، لكن المهمة التي تصدى لها صدام حسين تظل مطروحة، لا مستقبل لحركة التحرر الوطني العربية من دون مواجهة شاملة مع الأنظمة الخليجية، والنضال، وفق حسابات تستثني المغامرة، لتفكيكها وإخضاعها واخضاع ثروات الخليج لمصالح التنمية المستقلة في العالم العربي.

انتهت هزيمة حزيران (ونتيجتها التضامن العربي) إلى سياسة السلام مع إسرائيل. ومن الملاحظ أن هذه السياسة لم تنعزل عن التراجع الداخلي عن سياسات التنمية المستقلة والديموقراطية الاجتماعية، مما يدل على العلاقة العضوية بين البرنامج المضاد لحركة التحرر الوطني العربية والسلام مع إسرائيل. وسوف نتذكر أن عهد الرئيس أنور السادات تمحور حول خطين سياسيين: الانفتاح الاقتصادي (الانتقال نحو الكمبرادورية)، والسلام مع إسرائيل (الصلح والتعاون والتنسيق الأمني). وهذان النهجان المترابطان لا يزالان يحكمان السياسة المصرية حتى الآن، على رغم  (ثورة 25 كانون الثاني/ يناير) التي لذلك نعُدّها انتفاضة جزئية تمكنت الأنظمة الحاكمة من استيعابها بتسليم المواقع القيادية في الدولة إلى الإخوان المسلمين، الذين يؤيدون، بجلاء، الاقتصاد الكمبرادوري. وهو ما يجعلهم مجبرين، شاؤوا أم أبوا، على قبول كامب ديفيد والتنسيق مع تل أبيب، تحت الرعاية الأمريكية. إنها حزمة واحدة من السياسات:  (الصداقة) والتبعية (وخصوصاً العسكرية) للإمبريالية الأمريكية، والتحالف مع السعودية، والكمبرادورية، والسلام مع إسرائيل.

في النموذج السوري البالغ التعقيد، كانت دمشق تراوح بين سياسة التضامن العربي ـ وخصوصاً مع السعودية ومصر حسني مبارك ـ والاستمرار في رفض توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، ودعم المقاومة وتواصل التحالف العسكري مع روسيا في أفق  (حتمية السلام). وداخلياً ترافقت هذه الحزمة المتداخلة من السياسات مع اضطراب في النهج الاقتصادي الاجتماعي انتهى بسيطرة الكمبرادورية، نسبياً، في القطاعات المالية والعقارية والخدمية. وهو ما أدى إلى انفراط التحالف الوطني الاجتماعي الهشّ أصلاً.

لكن سورية هي البلد العربي الوحيد الذي لا يزال يشتمل على مواقع أساسية لقوى التحرر الوطني. ومن المأمول أن تعيد تجربة الحرب الوطنية التي يخوضها الجيش العربي السوري ضد التدخل الإرهابي الخارجي صَهْر تلك المواقع في تجربة جديدة للتحرر الوطني. وهذه مهمة نضالية يمكن أن يحرزها تحالف سياسي من داخل النظام وخارجه، في جبهة وطنية تقدمية من طراز جديد، قادرة على تمثُّل أوسع اتجاهات المفهوم المركب للتحرر الوطني.

تاريخياً، ليست كل القوى التي شاركت في حركة التحرر الوطني العربية في مرحلتها الأولى، الممتدة على عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، استطاعت أن تتمثّل كل عناصر مفهوم التحرر الوطني بشموليته. وذلك تبعاً للطبيعة الاجتماعية للقوى والأحزاب التي احتلت المواقع القيادية في تلك الحركة. وهي هنا قوى قومية تعبّر، في خطها العام، عن عقلية برجوازية صغيرة وفلاحية لم تستطع التحرر من نزعات الانتهازية الفردية والربح والتربُّح والامتيازات والتعالي على الكادحين والعداء للمثقفين الوطنيين. وانطباعها، في المقابل، بعناصر الثقافة القروسطية، وبضمنها التعصبات المذهبية والطائفية والفئوية والممارسات السلطوية التقليدية. وهو ما أدى إلى خلل رئيسي في تكوين النخب القومية الحاكمة وتورّطها في الفساد والاستبداد، وميلها إلى التحول إلى عناصر رأسمالية (وبالتالي كمبرادورية، إذ لا توجد شروط اقتصادية محلية لولادة رأسمالية وطنية) وذلك، من خلال استغلال تحكُّمها في مفاصل السلطة السياسية، أي في آليات الفساد التي تشتغل مفاعيلها في المستويات الأدنى، وفي كل المجالات والقطاعات.

واجهت القوى القومية المسيطرة في حركة التحرر الوطني العربية، معارضة من داخل الحركة، تمثلت في الشيوعيين الذين سعوا، من جهة، إلى تعميق الإنجازات الاجتماعية التقدمية (وهو ما يعبر عن فكرهم ودورهم كممثلين للفئات الشعبية الكادحة)، وتورطوا، من جهة أخرى، في الانزلاق نحو مطالب الليبرالية السياسية. وهو ما يعبر عن مطالب برجوازية. وقد واصلت جماعات منهم ذلك الانزلاق إلى درجة التخلي عن نهج التحرر الوطني كلياً، والانقلاب نحو التحالف مع الغرب والرجعية الخليجية في سياق أطروحة ليبرالية صريحة.

لكن المعارضة الأشرس هي التي واجهتها أنظمة حركة التحرر الوطني من خارجها، أي من الرجعية الدينية المدعومة من مشيخات الخليج. وأقوى منظمات الرجعية الدينية تلك هي منظمة الإخوان المسلمين المعادية للديموقراطية الاجتماعية، والرافضة لتغيير علاقات المُلكية وهدم الهيراركية الاجتماعية. (التدرج الهرمي للسلطات) وقد تصدى الإخوان المسلمون، بكل طاقاتهم، للمشاريع التنموية الوطنية في الخمسينيات والستينيات. ولا غرو فالتنمية الوطنية الشعبية تفكك، بالفعل، الأسس التي تعيش عليها المنظومات الدينية الرجعية، وممثلوها الذين وجدوا أنفسهم في جبهة واحدة مع الفئات الاقطاعية والرأسمالية وشيوخ النفط، وتالياً مع الإمبريالية وإسرائيل.

تمتعت حركة التحرر الوطني، في مرحلتها الأولى، بحليف دولي وازن هو الاتحاد السوفياتي، بينما واجهت عداء الإمبريالية الشامل، وخصوصاً الأمريكية والصهيونية وإسرائيل. وقد أصبح معروفاً اليوم أنّ حرب حزيران 1967 التي ضربت التجربة الناصرية في مصر، نفذها الإسرائيليون ـ وأفادوا من نتائجها ـ لحساب التحالف الأمريكي ـ السعودي. وقد صلّى الإخوان المسلمون، لدى انتصار إسرائيل في تلك الحرب، ركعات الشكر لله!

اليوم، يشن التحالف الأمريكي الخليجي التركي الإسرائيلي، هجمة شاملة لاستئصال آخر مواقع التحرر الوطني في العالم العربي، أي الموقع السوري. وهي هجمة تستهدف أن تظل الحركات الشعبية العربية بعيدة عن الخليج، وأسيرة التصورات الليبرالية في السياسة (سوف تنحط، لاحقاً، إلى انتخابية استبدادية) والنيوليبرالية في الاقتصاد و (الصداقة) مع الولايات المتحدة والسلام مع إسرائيل، على المثالين المصري والتونسي البالغَيْ الدلالة.

وإلحاح الهجمة على سورية، تحفزه، إضافة إلى الإمكانات الواعدة لنمو التيارات الوطنية الاجتماعية في الحركات الشعبية، المخاوف الغربية الخليجية من تحقق الفرصة التاريخية التي يحظى بها، اليوم، الحلف الروسي والصيني لتكوين قطبية مضادة للغرب. ففي مقابل الأزمة الاقتصادية والمالية في الغرب الرأسمالي، تتمتع روسيا والصين باقتصادين صاعدين، وبالإرادة الصلبة للدفاع عن مواقعهما في الاقتصاد العالمي. ولذلك، فإنهما تخوضان، وستخوضان، المعركة السورية بكل ما أوتيتا من قوة. وفي سورية، يريد تحالف الواحدية القطبية أن يحقق هدفين معاً، تحطيم إمكانية نهوض حركة التحرر الوطني العربية وعرقلة ولادة عالم متعدد القطبية في آن واحد.

يحاول بعض المتمركسين المنضوين في العباءة الوهابية، تصوير روسيا بوصفها دولة إمبريالية! وهذا وصف يدعو إلى الضحك حقاً. روسيا، اليوم، رأسمالية وطنية صاعدة تناضل ضد محاولات إلحاقها من قبل الضواري الإمبرياليين، وتحويلها إلى دولة كمبرادورية. إنها تعيش صعوداً قومياً دفاعياً، وسياساتها كلها تقع في باب الدفاع عن الذات ضد الكمبرادورية والتفكك والتهميش. ولذلك، فهي، بالوصف الماركسي، قومية تقدمية. ولعل من الضروري، هنا، الانتباه إلى أن إمكانات روسيا السياسية (العضوية الدائمة في مجلس الأمن) والعسكرية (بما في ذلك قدراتها النووية وصناعتها المتطورة في مجال السلاح) وبناها كدولة صناعية حديثة، لم تأت بفعل نظامها الحالي الرأسمالي الوطني، لكن بفعل التراكم السياسي والتنموي المتحقق في الحقبة السوفيتية. وهذا التركيب بين المنجزات السوفييتية وتنامي قوة رأسمالية الدولة القومية، هو الذي فتح باب التاريخ أمام روسيا لكي تنافس على القطبية الدولية.

روسيا لا تزال اليوم في مرحلة بناء ودفاع. وهو ما يمنح سياساتها بعداً تقدمياً صريحاً. وفي المستقبل ستواجه روسيا ثلاثة خيارات: اكتمالها كرأسمالية كبرى، فتتحول، بالتالي، إلى إمبريالية. وهذا احتمال ضعيف لأن الإمبريالية العالمية أغلقت ناديها على هيراركية ألحقت بها كل الرأسماليات الكبرى بالهيمنة الأمريكية، فلا يعود أمام الروس، في خيار ثان، سوى الالتحاق أو تحطيم النادي الإمبريالي، أي خوض حرب عالمية جديدة. أما الخيار الثالث، فيتمثل في انتصار صيغة اشتراكية حديثة في روسيا تربطها بماضيها السوفييتي من دون تكلّسه واستبداديته. ومهما تكن السيناريوهات الروسية اللاحقة، فإن شيئاً واحداً أصبح محسوماً منذ الآن. وهو أننا إزاء عالم متعدد القطبية سوف يمنح، حركة التحرر الوطني، فرصة تاريخية جديدة، تتمثّل في ما يلي:

– أولاً، تلافي الهيمنة الإمبريالية على القرار الدولي.

– ثانياً، تلافي العدوان الإمبريالي العسكري (مع العودة، بالطبع، إلى الأساليب الاستخبارية والإعلامية وشن الحرب بالوكالة بالاعتماد على الأنظمة والحركات الرجعية كما هو حادث اليوم في سورية).

– ثالثاً، إمكانيات التسلّح الحديث وإعادة هيكلة الجيوش الوطنية.

– رابعاً، إمكانيات فك الارتباط بالرأسمالية الإمبريالية وتعزيز العلاقات الاقتصادية القائمة على المصالح المتبادلة مع روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا (مجموعة البريكس)، وهو ما يعطي حركة التحرر الوطني القدرة على ضرب القوى الكمبرادورية، واستعادة سيطرة الدولة على العلاقات الاقتصادية الخارجية.

– خامساً، تحرير الإرادة الوطنية في القرار التنموي وإقامة النظام الديموقراطي الاجتماعي.

في الخلاصة، تأكيد ما يأتي:

– أولاً، كل الطروح النيوليبرالية والليبرالية واليسارية الليبرالية والسلموية والقومية التقليدية والإسلاموية، التي سيطرت منذ مطلع التسعينيات حتى اليوم، سقطت، اليوم، في الوحل، وظهر عقمها التاريخي في تجارب عيانية في بلدان عربية رئيسية، لكن ظهرت كل بشاعتها التدميرية في سورية.

– ثانياً، أظهرت التجربة السورية الاستحالة الموضوعية للفصل بين السياسات الدفاعية وتلك الاقتصادية الاجتماعية، وبينهما وبين السياسة الخارجية، مما يعيد طرح قضية التحرر الوطني بوصفها قضية مركّبة من الوطني والاجتماعي والسياسي والثقافي والجيوسياسي والاستراتيجي.

– ثالثاً، تجديد حركة التحرر الوطني أصبح، إذاً، على رأس جدول الأعمال المشرقي ـ ولاحقاً العربي ـ انطلاقاً من المعركة السورية. هل ذلك ممكن؟ نعم، مادام العالم المتعدد القطبية ينبلج فجره الحتمي.

– رابعاً، إنّ استنساخ مناهج وبرامج الأنظمة القومية للمرحلة السابقة من حركة التحرر الوطني لا يجدي نفعاً، لأنّها، علاوة على كونها مناهج تجريبية وبرامج مهجنة، فقد أصبحت فائتة موضوعياً، مما يضع على عاتقنا إنتاج رؤى جديدة لحركة تحرر وطني جديدة. وهذا ما سأحاوله، هنا، تباعاً، من خلال إثارة القضايا التي لن تنضج إلا بنقاش جاد ومسؤول ورفاقي.

 

 

عن الزميلة (الأخبار)

العدد 1102 - 03/4/2024