جبل النبي متّى.. إهمالٌ وتريّث ٌطال أمده!

لاشك أن السياحة في معظم دول العالم، ومنها سورية، قد حظيت في الآونة الأخيرة باهتمام ملحوظ، بعد أن أصبحت مصدراً هاماً من مصادر الدخل القومي، وهناك الكثير من الإحصائيات التي تتحدث عن مليارات الدولارات التي تجنيها الدول سنوياً من عوائد السياحة. وإذا كانت بعض هذه الدول قد استثمرت مواقع عادية ومتواضعة في نظر الناس وحولتها واشتغلت عليها من جميع النواحي حتى باتت معلماً سياحياً وقبلة للعديد من السياح، فإنه من المستغرب التجاهل والإهمال غير المبرر من قبل وزراء السياحة في الحكومات السورية المتعاقبة لموقع سياحي مهم، كجبل النبي متّى!

معلومات عن الموقع

للوقوف على الأهمية البيئية والزراعية لموقع محمية جبل النبي متّى، التقينا بالمهندس الزراعي سهيل صبح، الذي تحدث في البداية عن بعض المعلومات الهامة عن الجبل فقال: يعدّ جبل النبي متّى من المواقع الحراجية الهامة جداً على مستوى طرطوس. يقع جبل النبي متى إلى الشرق من منطقة الدريكيش، ويبعد عنها بحدود 15 كم، ويبعد عن ناحية دوير رسلان نحو 4 كم، ويبلغ ارتفاعه عن سطح البحر نحو 1050 متراً، بينما يبلغ الارتفاع عند قاعدته نحو 800 متر. يشغل الجبل مساحة تقدر بنحو 650 هكتاراً، وقد بوشر بأعمال التشجير في الموقع بين عامَيْ 1978- 1979.. وتشكل هذه الأشجار غابة اصطناعية مزروعة بمختلف أنواع الصنوبريات (صنوبر ثمري، وصنوبر حلبي، وكستناء، وأشجار الروبينيا التي تُستخدم سياجاً لأنها شوكية). وفي الجبل مجموعة من الأبنية والمنشآت، كالمشتل الخاص بإنتاج غراس الكستناء، وبناء يسمى مقر الحديقة البيئية.

صدر القرار رقم 211/ ت تاريخ 29/9/ 2009 بإحداث محمية جبل النبي متّى، وكان الهدف منه الحفاظ على الغطاء النباتي، والتحريج الاصطناعي، ومنع التعديات عليه والحفاظ على التنوع الحيوي، إضافة إلى مخفر حراجي ومحطة الاستمطار.. وللمحمية أهمية كبيرة من حيث تأمين البذور الحراجية (صنوبر ثمري وكستناء وروبينيا) لجميع المشاتل في محافظة طرطوس، وقسم من مشاتل بقية المحافظات. تتميز الغابة بالطقس البارد شتاء والمعتدل صيفاً، وتتميز بالأمطار الغزيرة، إذ بلغت كمية الأمطار في العام الماضي نحو 1800 ملم.

الينابيع والحيوانات والطيور

مياه جبل النبي متّى هي مياه معدنية، وهي من أعذب المياه الموجودة في محافظة طرطوس. ويبلغ عدد الينابيع في جبل النبي متّى 360 نبع ماء. وحالياً أصبح قسم كبير من أهالي محافظة طرطوس وبعض المحافظات القريبة منها يشربون من مياه الجبل بواسطة عدد من باعة المياه الجوالين من أبناء المنطقة. ويؤكد المهندس سهيل صبح أنه قام شخصياً بتحليل عينات من مياه الجبل في أكثر من مخبر، وكلها جاءت متطابقة لجهة عذوبة المياه وغناها بالعديد من العناصر المعدنية الضرورية.

يوجد في الغابة عدد لا بأس به من الحيوانات كالأرانب والثعالب وحتى الخنازير البرية، ومعظمها يتركز في الجهة الشرقية من الغابة، في منطقة تدعى الجورة الكبيرة. وقد تأكدنا من هذه المعلومة من عدد من المزارعين الذين يزرعون بعض الخضراوات. كما يوجد عدد كبير من الطيور يمكن أن نعدد منها الحجل والشحرور والهدهد وبعض الطيور الجارحة وأنواعاً كثيرة من العصافير.

تحسينات متواضعة

عن واقع الحال السياحي المتواضع يؤكد المهندس سهيل صبح أنه يؤم الجبل في فصل الصيف عدد غير قليل من أبناء محافظة طرطوس وعدد قليل من بقية المحافظات. ولا يقتصر الأمر على فصل الصيف، إذ يشهد الجبل ازدحاماً ملحوظاً أثناء تساقط الثلوج في فصل الشتاء. ويضيف: لقد أقمنا مؤخراً ثلاثة أكواخ وعشرة مقاعد وبعض الطاولات، وكلّها مصنوع من الخشب بما يؤمن الحد الأدنى من الراحة للزائر. ولكننا نعاني دوماً ضعف الثقافة السياحية للزوار. فالزائر في معظم الأحيان يغادر المحمية تاركاً خلفه الفضلات وكل ما لا يلزمه، مما يحتم علينا تعيين عمال للنظافة، وهو أمر يشكل ضغطاً علينا، نظراً للعدد القليل من هؤلاء العمال، علماً أننا وزعنا براميل وسلاّت مهملات. وهناك خطة نأمل أن تنفذ في المحمية، وتتضمن إقامة مسرح للأطفال ومدرجات وأكشاك للبيع أيضاً.

إجراءات الوقاية من الحرائق

تعدّ مخلفات الغابة من (الأوراق والأغصان اليابسة) الوقود اللازم للنيران، إضافة إلى مخلفات عمليات الشواء التي يقوم بها الزوار. ومن أجل الحد من انتشار النيران في حال اندلاعها.. فقد أكد المهندس سهيل صبح أنه تم اتخاذ عدد من الإجراءات، منها وجود عناصر إطفاء (على قلّتهم ) مدربين على التعامل مع حرائق الغابات، إضافة إلى وجود صهريجَيْ ماء وجرار زراعي ووجود خطوط نار تؤمن وصول الآليات إلى كل مكان في غابة النبي متّى، فضلاً عن قيام العناصر أثناء عمليات التنظيف بإطفاء بقايا الجمر في أماكن الشواء العشوائية. علماً أننا أقمنا مواقد لتلك العمليات. كما يوجد في المحمية منشرة آلية من أجل عمليات التقليم، والفارق الآن هو أننا نستخدم الأشجار المقطوعة في بناء الأكواخ والمقاعد والطاولات كما ذكرت لك سابقاً.

السياحة البيئية في جبل النبي متّى

عند الحديث عن السياحة البيئية، فإننا نعني بذلك سياحة التمتع الملتزم بالطبيعة ومكوناتها، وهذا النوع من السياحة يتم دون الإخلال بالنظم البيئية، ودون أي تأثير سلبي على مكونات التنوع الحيوي، وتتم هذه السياحة بقصد استكشاف الطبيعة والاستمتاع بمناظرها ونباتاتها وحيواناتها البرية. لكن لا يمكن أن يتم مثل هذه الجولات السياحية بشكل اعتباطي دون معرفة بعض المبادئ كبناء الوعي البيئي والثقافي، من خلال حملات التوعية والتثقيف وبناء مشاريع السياحة البيئية وفق نهج انتقائي دقيق وتخطيط علمي ورقابة فعالة ومستمرة دون إغفال أهمية إشراك المجتمعات المحلية في مشاريع السياحة البيئية بقصد تحسين أوضاعهم الاقتصادية.

مقترحات استثمار متوقفة لأسباب مجهولة

الأستاذ أحمد العمران، رئيس بلدية حيلاتا، تحدث مطولاً عن أهمية جبل النبي متّى والسياحة البيئية التي يمكن القيام بها.. فأوضح أن هذا النوع من السياحة لا يمكن القيام به قبل إقامة عدد من المرافق البيئية – إن جاز التعبير- كإقامة النزل البيئية، وهي أماكن إقامة تعتمد تصاميمها على عنصر الطبيعة بشكل كلي، بحيث لا تدخل عناصر صناعية فيها كالأسمنت والحديد والصرف الصحي والمعدات الكهربائية (المنسجمة مع البيئة). كما يجب إيجاد المطاعم والاستراحات البيئية، التي تقدم الوجبات التقليدية والمحليّة فيها ضمن لوائح طعام خاصة. ثم نأتي إلى عمليات النقل البيئي حيث يعتمد النقل البيئي على الرواحل (الجِمال- الأحصنة- الحمير أحياناً) أو الدرّاجات الهوائية.

أما فيما يتعلق برياضة المشي في الطبيعة كنوع من السياحة البيئية، فيؤكد الأستاذ أحمد العمران أنه يتم تحديد مسارات خاصة لممارسة المشي في الطبيعة بمرافقة أدلاء، ممّا يقلل الضرر الممكن على الغطاء النباتي، وهناك أيضاً الرحلات النهرية ورياضة المغامرات.. إلخ.

ثم توسعنا في الحديث وسألناه عن أهم المقترحات التي قدمها للنهوض بالواقع السياحي فقال: نحن نعاني الفوضى الموجودة في الغابة، فالزائر في أغلب الأحيان لا يمتلك الإحساس بالمسؤولية تجاه الغابة.. ودعني أسأل عن المانع في أن يقوم هذا الزائر بتعبئة ما زاد عن حاجياته وفوارغ زجاجات الماء أو العصير في الكيس نفسه، الذي جلبها به، ثم وضعها في سلال القمامة التي أمنّاها بالتعاون مع الزراعة؟!  المساحة الكبيرة للغابة (650 هكتاراً) تجعل عملية التنظيف شاقة. وفي هذا الخصوص دعنا نتحدث عن إمكان القيام بعمليات التنظيف والترتيب فيما لو استثمرت مساحة محددة، وليكن دونماً مثلاً من البلدية أو الزراعة.. فمن الممكن ترتيبه ترتيباً لافتاً من  المستثمر، مع إمكان تقديم بعض الحاجيات من أكشاك بسيطة أو الأكلات الشعبية والطاولات والكراسي.. تخصيص هذه المساحة قد تقي من حوادث الحرائق التي تحدث بسبب عمليات الشواء، إذ يمكن تحديد مكان في هذه المساحة من أجل عمليات كهذه.

منذ نحو سنتين – يضيف الأستاذ أحمد العمران – تقدمنا بكتاب حسب التعليمات والقوانين الناظمة لإقامة نزل بيئية، وأخذ ذلك الكتاب شكله القانوني، وصادق عليه كل المعنيين، لكنه توقف أخيراً في أدراج السيد وزير الزراعة آنذاك الدكتور عادل سفر (للتريّث)، وكم نتمنى لو نعلم مصيره الآن!

هناك مشروع آخر نسعى للحصول على موافقة به، وهو إقامة معمل لتعبئة المياه المعدنية، مادام الجبل يشتهر بمياهه العذبة والنقية والغنية بالعناصر المعدنية حسب أكثر من تحليل. هذا المشروع إذا وُوفق عليه، فسيشكل العصب الحيوي والمنقذ المالي للبلدية، وسينعش المنطقة ويؤمن فرصة عمل حقيقية لعدد كبير من أبناء المنطقة، وبالتالي يصبح باعة المياه الجوالين، الذين تحدثنا عنهم سابقاً مندوبين للمعمل. لقد تواصلتُ مع عدد من الشركات، منها شركة صينية، على استعداد لتركيب خط إنتاج بتكلفة 15 مليوناً، وتكون الطاقة الإنتاجية في اليوم بحدود 12 ألف عبوة / تكلفة العبوة، وأجرة العامل والضريبة لا تتجاوز 5 ليرات فتخيل الأرباح!

تقدمت في الشهر الأول من هذا العام بكتاب يتعلق بموضوع المعمل إلى مجلس محافظة طرطوس، ولكن حتى الآن دون أي رد أو إجراء، علماً أننا استندنا في ذلك على القانون 2680 وتعديله في العام 1985، ووفق القرار 91 الذي يتحدث عن عشر صناعات محصورة بالدولة، ومنها تعبئة المياه، وحصر ذلك بالقطاع العام والصناعي.. وعندما سألت عن مصير الكتاب الذي رفعناه إلى مجلس محافظة طرطوس أجابوا بأنهم لا يعرفون ما إذا كانت البلدية قطاعاً عاماً أم لا! المادة الأولى في القرار الصادر عن وزير الصناعة في العام 1988، يتحدث عن أن البلدية جهة عامة، ويحق لها العمل في المجال الصناعي.. لقد أرسلت كل الأوامر والقرارات والمراسيم الصادرة المتعلقة بالموضوع، إضافة إلى أن العقار الذي سيقام عليه المعمل موجود!

إذا كانت الحكومات السابقة تتحدث عن الصناعة السياحية والترويج السياحي والعوائد المالية الضخمة للمشاريع السياحية، فكل ما نتمناه أن يلحظوا واقع جبل النبي متّى، ويأخذوه بعين متفحّصة وخبيرة كي يُستثمر، علماً أن رئيس بلدية حيلاتا اختتم حديثه بالقول: (الاستثمار في الصناعة ضمانة حقيقية، لأن السائح عند أول مشكلة سيحزم أمتعته ويرحل!).. فهل تسرع الحكومة بالموافقة على مقترحات المشاريع المقدمة إليها بخصوص جبل النبي متّى، أم أنها ستطالبنا بالتريث الذي مللناه بعد أن طال أمده؟!

العدد 1104 - 24/4/2024