كيف نحمي أطفالنا من تأثيرات المجتمع المحلي الضارة؟

 بات من أهم مهام الوالدين اليوم هو كيفية التّصدي ومجابهة العادات والتّقاليد الّتي بدأت تُسيطر على مجتمعنا.

يتسع نطاق اتصال الطّفل بالعالم الخارجي كُلّ عام، وتتعرض حياته لمزيدِ من الاحتكاك بالنّاس، ويخضع لكثير من المؤثرات والتّحديات. ولا يمكننا أن نغض النّظر عن أنّ مجتمعنا اليوم بدأ يفقد تراثه الرّوحي والأخلاقي، ويعيش حالة من التّشويش المزعج بشأن ما هو صواب وماهو خطأ في كُلّ مؤسسات المجتمع. كما أنّه لا يُمكن للآباء الّذين يهتمون بأطفالهم، أن يتركوا مهمة تعليم الأخلاق وتحصيل المعارف لأناس آخرين، فقد تغيّرت القوانين الأخلاقية والقيم في المؤسسات الّتي كُنّا نثق بها من قبل، وقد صعّب ذلك مهمة التّربية، ولكن في نفس الوقت قدّم المزيد من الفرص لمساعدة أطفالنا على النّجاح والتّفوق في العالم الّذي يواجهونه.

إنّ اختيار الطّريق الصّحيح في المجتمع يتطلب الشّجاعة، لأنّ المتقدمين للوظائف يملؤون بياناتهم العملية بمستنداتٍ مضلّلة، ويقدّم المواطنون للضرائب تقديراتٍ غير صحيحة عن أرباحهم، ويبحث الطّلبة عن طرقٍ خبيثة للغشِ في الامتحانات، أصبح مدير أيّ مؤسسة يعين موظفاً معه من الشّهادات الابتدائية فقط ويطلب منه التّجسس على بقية الموظفين الذين يحمل أدنى موظف فيهم دبلوماً أو ماجستيراً، بحجة أنّه يريد أن يبقى واعياً لما يحصل في مؤسسته! ولكن هل يا ترى هذا الموظف الأمّي المكلف بهذه المهمة له من الأمانة والصّدق في إيصال الحقيقة، أم هو أمين لجيبه ومن يدفع له أكثر من الموظفين ليوصل إلى المدير الرسالة الّتي يرغب فيها صاحبها.

تقفُ مديرة إحدى المدارس الخاصّة، وتقول علناً أمام فريق عملها في المدرسة: السرقة في مهنة التّدريس حلال، اسرقوا بعضكم بعضاً. فما الّذي فعلته هذه المديرة سوى أنّها أطلقت مجموعة من الوحوش تركتهم يلتهم بعضهم بعضاً… إذا كانت السرقة في مؤسسة تربوية حلالاً، فماذا عن بقية المؤسسات؟!

نحن نعيش الآن في مجتمعٍ تندر فيه الأمانة والتّفكير السّليم، فازداد أطفالنا اليوم تأثراً بأناس وعناصر يحاولون أن يمتلكوا عقولهم وقلوبهم. كان ذلك دائماً هو واقع الحال، ولكنّه لم يكن لافتاً للنظر كما هو اليوم.

بالطّبع عندما يدخل الشّاب أو الفتاة في مجال العمل، لن يكون الأهل معهم ليحددوا لهم ما سوف يتخذانه من قرارات، ولهذا السبب من المهم أن يتعلّم الطّفل منذ الآن أن يفكّر تفكيراً منطقياً وسليماً، ويحترم منذ هذه اللّحظة وجود الآخرين في حياته.

ما هي عناصر التّفكير السّليم؟!

لكي نساعد أطفالنا على النّضوج وفقَ ما نريد، من الضّروريّ أن نساعدهم كي يفكّروا تفكيراً منطقياً سليماً، إنّهم بحاجة إلى تطوير مقدرتهم على تقييم الأمور، واتخاذ القرارات بأنفسهم، حتّى إذا بلغوا السّابعة عشرة من العمر، نكون واثقين بأنّ لديهم الخلفية والتّدريب والتّمييز الّذي يُمكّنهم من اتخاذ معظم قراراتهم بأنفسهم، إنّه شيءٌ ضروري ليشعروا بالأمان، ولراحة بالنا أيضاً.

عندما نقوم بمهمة تدريب أطفالنا، نسعى لإعطائهم المفاهيم الصّحيحة بشأن العالم، والطّريقة الملائمة لهم. فمهمتنا هي تشكيل أفكارهم عن الواقع لتمكينهم من إحراز نظام صحيّ وقوي خاص بهم، لكي يصبحوا أصحاب مبدأ، بذلك فقط يُمكن لأطفالنا أن يصمدوا في وجه القيم المعارضة والمؤثرات الضّارة، وبهذه الطّريقة يُمكنهم أن يُؤثروا في الآخرين بطريقة إيجابية وصحيحة.

للأسف، هناك الكثير من النّاس في مجتمعنا اليوم، يرون أن من الغباء أو ضيق الأفق التّقيّد بالمبادئ والقيم، وبدأت تتزايد أعداد النّاس الّذين ينادون بهذا الرّأي، والنّتيجة أنّه أصبح العديد من الأهالي في مجتمعنا لا يسلمون الحقائق الأساسية والقيم الحقيقية لأطفالهم، فالبحث عن وسائل الرّاحة والرّغبة في تجميع الأموال قد حلّ مكان فعل الصّواب والعمل لأجل خير الآخرين أو المنفعة العامّة، فأصبح مجتمعنا بالتّالي غير قادر على التّمييز بين الصّواب والخطأ، ولكن على الرغم من ذلك فإنّ الأمانة جزء لا يتجزأ من السّمات الأساسية الّتي تحدد قدرة الشّخص على أن يكون صادقاً مخلصاً وجديراً بالثّقة.

المكونات الثّلاثة الأساسية للأمانة هي:

1. قول الصّدق.

2. الوفاء بالوعود.

3. تحمّل مسؤولية تصرفاتنا.

منذُ زمنٍ ليس ببعيد، كان معظم النّاس في مجتمعنا يُكرّمون الأمانة المتمثلة في كُلّ عنصر من العناصر الثّلاثة السّابقة، ولكن هذه المكونات غائبة الآن عن المقاييس الأخلاقية للمجتمع، إنّها ظاهرة علينا أن نتصدى لها ونحاربها، ونحن نربي أطفالنا ليشبوا على القيم الصّحيحة.

1) قول الصّدق: إنّ قول الصّدق مبني على ما هو أكبر من نظام المجتمع، إنّه مؤسس على فكرة وجود حقيقة موضوعية نبني عليها حقائق حياتنا ومجتمعاتنا، فالكذب يُؤثر على كُلّ تفاصيل حياتنا الشّخصية، وربما تمتد معظم آثاره المدمرة إلى البيت، إنّ كذب فرد على الآخر في محيط العائلة لا يسبب فقط الرّعب والفزع، لمن كذبنا عليهم، والإحباط لمن كذّبوا، بل إنّه يشوه العلاقات في البيت وقد يُدمّرها، كما أنّ الأشخاص الّذين كذبنا عليهم لا ينسون ذلك أبداً، ويفقدون ثقتهم بالآخرين، ولا يعرفون بمن يضعون هذه الثقة.

2) الوفاء بالوعود: وهو جانبٌ آخر من جوانب الأمانة الّتي تُصاب بالعطب،فوعودنا تشمل الاتفاقات العارضة الّتي لها القليل من الآثار الطويلة المدى، وتمتد إلى الوعود الرّسميّة مثل عقود العمل.

حتّى أفضل النّاس يميلون أحياناً إلى عدم الوفاء بوعودهم، أو أن يتراجعوا عن تنفيذ اتفاقاتهم، ثُمّ يلقون تبعة ذلك على شخص آخر. فإذا تدربنا جيّداً على العناصر الأساسية للأمانة وكنا مقتنعين بأهميتها، أمكننا أن نقاوم الإغراءات، ولكن بدون هذا التّدريب والتّبكيت، تكون دفاعاتنا ضعيفة التّحصين، ونحن نرى هذا النّوع من الضّعف حتّى بين الّذين نالوا قسطاً وافراً من التّعليم.

3) تحمّل المسؤولية: أي المسؤولية الشّخصية عن أفعال المرء، فعدد كبير من النّاس يرون أنّه من السّخف أن يتحمّل المرء المسؤولية عن أفعاله إذا كان في مقدوره التّخلي عنها وتحميلها لشخص آخر. من أجل ذلك بات في جميع مؤسساتنا شخص، مهمته حمل الأخطاء الّتي ترتكبها إدارة المؤسسة (مثل علاقة الثياب)، والمضحك أنّ مثل هذا الّذي لا يفقه شيئاً يكون راتبه عالياً ويتحكم بالمستقبل المهني لبقية الموظفين. لقد أصبحنا مجتمعاً مليئاً بالضحايا، وبتنا نتساءل ما إذا كان شخص ما سوف يوجه إلينا اللّوم غداً عن تصرف قام به هو. وبتنا نشعر بالدّهشة الحقيقية عندما يرفض شخص ما أن يستخدم هذه الوسيلة الفجّة والبدائية للتهرب من المسؤولية.

ما العمل إذاً، ما هو دور الأهل والمربين؟

لكي نُربي ونعلّم أولادنا نحن بحاجة إلى فحص مشاعرنا وطرق تفكيرنا. هل نريد لأولادنا أن يتقدموا في الحياة وفقاً للطريقة الّتي نتبعها نحن؟! وهل نحن متأكدون أنّنا نعرف كيف نصل إلى استنتاجاتنا أو كيف نتخذ قراراتنا؟! من أجل ذلك نحن بحاجة إلى أن نشرك معنا أولادنا في المراحل المختلفة لنموّهم. ولكن لسوء الحظ معظم الآباء لا يفعلون ذلك، إنّهم يطلعونهم فقط على استنتاجاتهم وآرائهم، مع مرور الوقت يرفض الأولاد أفكار آبائهم ومعتقداتهم وقيمهم، لذلك نختم ما توصلنا إليه من استنتاج أو رأي بكلمة لأنّ، فإنّ ذلك يذكرنا بأن نشرح السّبب الّذي جعلنا نشعر أو نفكر بهذا الأسلوب، كما يُجبرنا على فحص فكرنا إن كان عقلانياً ومنطقياً أم لا، ويحفزنا أن نكون معقولين، فعندما نشارك أطفالنا بطريقة تفكيرنا فنحن نشاركهم أيضاً في مشاعرنا. وعلينا أيضاً أن نخصّص وقتاً منتظماً للتحدّث مع أطفالنا، منذ نعومة أظفارهم، وهذا مفيد جداً في التّحكم بالغضب.

التقيتُ ذاتَ يوم، بأسرة تتبع هذا الأسلوب مع أولادها، نجد أولاد هذه العائلة لديهم القدرة على التّعبير بدقة عندما يقلقهم شيء ما ويستطيعون أن يشرحوا السبب في ذلك، وهذا يُسهل على والدَيْهم أن يفهماهم ثُمّ يسألاهم السّؤال الهام: لماذا؟ عندما يريدان أن يعرفا الأسباب الكامنة وراء أفكار أولادهم  أو سلوكهم المضطرب.

يتطلب هذا النّوع من التّدريب الكثير من الوقت، ولكن الفوائد النّاجمة عنه رائعة، كما أنّه ليس ضّرورياً أن تكون الغلبة دائماً للأهل، إنّ التّفكير الجيّد يتطلب وقتاً طويلاً، وهو جزء من عملية تنموية شاملة تقود إلى النّضج. فعندما يكتشف أولادنا أنّ بإمكانهم مناقشة أفكارهم معنا دون أن نبدي اعتراضاً عليها، فإنهم يصبحون أكثر استعداداً للإفصاح عنها، والأهم من ذلك سينفتحون لرؤية القضايا من وجهة نظرنا، وأن يتعلّموا ويتأثروا بنا، وبهذا الأسلوب تتحسن علاقتنا بهم.

كيف يمكنّنا أن نجعل أطفالنا يدركون الأخطار المحتملة، دون أن نخيفهم أو نولِّد فيهم القلق؟!

نحن بحاجة إلى استخدام الحوار، لنوضح بعض الأمور، الجيّد منها والسيئ، والّتي قد يواجهونها، فمثلاً ، قد تأخذ الأمّ ابنها إلى المستشفى قبل إجراء العملية بيوم أو اثنين لكي تُريه المستشفى وتشرح ما الّذي يحدث في كلّ حجرة، عوضاً أن تقول له بأنّها ستأخذه لزيارة حديقة الحيوانات وهو سيقوم بإجراء عملية.مثل هذا الإعداد سيعطي الطّفل الثّقة ويجعله يتطلع بشوق لرؤية والديه بعد الجراحة، عوضاً عن شعور الخوف والقلق الّذي سيعاني منه إذا لم نخبره بالحقيقة.

كيف نعدّ أولادنا لفترة التّعارف والنّضج الجنسي؟!

المفهوم التّقليدي الّذي يرتبط بالتّعارف، يخصّ الفتيات. فالأب الحكيم يقوم بالتّعارف مع ابنته، فيأخذها لتناول العشاء خارج البيت ويدعوها لعدّة أماكن، ويعطيها فكرة عن كيفية التّعامل مع مواقف كهذه. بعدئذٍ، عندما تخرج مع أحد الشّبان، لن تشعر بالقلق أو بالارتباك، بل عوضاً عن ذلك سوف تشعر بأنّها تُمسك بزمام الأمور ولا تكون خاضعة لرغبات الآخرين أو تحت سيطرتهم. لأنّ هذا الأب الحكيم سبق أن شرح لها كيفية التّعامل مع المواقف الصّعبة. وعندما يسأل أولادنا أسئلة تتعلق بموضوعات جنسية، علينا أن نُجيبهم، ولكن الإجابة يجب أن تكون وفق مستوى النّضج الذي وصلوا إليه، وأن نحذر عرض هذا الموضوع بطريقة سلبية.

إضافة إلى ذلك، الأولاد الأصغر سناً، هم بحاجة إلى إعدادهم لبعض الألفاظ الّتي قد يتعرضون لها في المدرسة أو الحديقة وقت اللّعب، عندئذٍ سوف يعرفون بأنّ هناك كلمات معينة ليست لطيفة وغير مناسبة للاستخدام.

أخيراً، نحن بحاجة اليوم إلى أن نحمي أولادنا من العنف الّذي يعيشونه والّذي يُشاهدونه في برامج الرّسوم المتحركة، ونشرات الأخبار، فواجبنا أن ندربهم لتكون ردة فعلهم متفقة مع المنطق والأحاسيس، بدلاً من ردة الفعل السّلبية المتسمة باللامبالاة الّتي أصبحت شائعة لدى الكثيرين اليوم. نحن نريد أن يكون أولادنا حساسين تجاه الألم، وأن يشعروا بالمحنة التّي يتعرّض لها الضّحايا، ويحسّوا بالطّيش الّذي لا مبرر له، وبالبربرية الّتي يتسم بها المسلحون (دعاة الحرية).

العدد 1104 - 24/4/2024