ثقافة الدولار

لا أزال أحتفظ في دفتر خاص بدزينة من مصطلحات ثقافية، تعددت جهات صدورها وتنوّعت أقلام الكتاب وأهواؤهم وهوياتهم ومنابتهم الطبقية. فلكل واحد طريقته وأسلوبه وهدفه مما يكتب، في زمن يقول عنه كثيرون، إنه زمن العهر و(السلبطة) والانتهازية واللهط والنهش.

اليوم.. وفي ظل أزمة لم تكن كسابقاتها (أزمة مارقة أو سحابة صيف وتمر)، تذكرت هذه المصطلحات، وعلى كثرتها سأذكر بعضاً منها مثل: (ثقافة الوقاحة وثقافة الاستهلاك والعنف والذبح على الهوية واللصوصية والسرقة والفساد والاستغلال والظلامية والسلفية والوهابية.. وثقافة الحوار والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.. وإلخ..من عناوين ثقافية!).

اليوم.. ملايين المواطنين ودون العودة لانتماءاتهم الاجتماعية، يراقبون سلّم التنازلات للحبيبة (الليرة السورية) التي تخلّت عن جيوبهم وهاجرت دون عودة إلى خزائن التجار، ونسي عشاقها دفأها حينما كانوا يتزاحمون على ضمّها إلى صدورهم، وحين كان  ربّ الأسرة يقدمها إلى ابنه وهو يرفع رأسه عالياً بكرامة وفخر واعتزاز..!

أصبح المواطن يعيش اليوم في زمن (القلق والخوف)، بعد انضمام مصطلح (ثقافة الدولار) إلى رأس قائمة يومياته. ومن غرائب هذه الأيام التحوُّل السريع في تعدد هوايات بعض المواطنين من حلّ الكلمات المتقاطعة، ومتابعة انخفاض الليرة أمام الدولار، وازدياد سعر غرام الذهب بين ساعة وأخرى.. ولتسهيل العملية الحسابية، ازداد بيع الآلات الحاسبة الصينية الرخيصة جداً، لمعرفة الفرق بين الأجور والرواتب من جهة، وبين ارتفاع الأسعار من جهة أخرى. وإجراء مقارنة بين الجيوب والسوق.

أسرار لا تعد ولا تحصى في هذا (الأخضر) الملعون الذي أدى إلى اسوداد حياة السوريين، وتحويل اخضرار أيامهم إلى هشيم..!

إن ثقافة الدولار في ظل الأزمة المتفاقمة، تعني ثقافة الفقر والوصول إلى حافة خندق الجوع. وهي حرب  تدميرية (سياسية اقتصادية اجتماعية) موجهة في نهاية الأمر إلى القضاء على سورية وشطبها من الخريطة الدولية. وهي مؤامرة كبرى من (الداخل والخارج) على الليرة السورية والاقتصاد الوطني، وإعلان مباشر للاقتصاد الليبرالي، والخضوع لإرشادات صندوق النقد الدولي وتوصياته وتعليماته.

وتطغى ثقافة الدولار على ثقافة الاستهلاك وحلَّت مكانها. وسأطلق عليها مصطلح (ثقافة الموت البطيء)، وهي حلقة من حلقات الثقافة الرأسمالية لتجويع الشعوب.

وتبين المعطيات اليومية منذ عام ونصف، أن المحصلة الأولية لهذه الثقافة من الناحية الاجتماعية، ازدياد عدد الفقراء والجياع، وظهور جيش من الفاسدين والمتاجرين بلقمة العباد، بدءاً من ربطة الخبز وأسطوانة الغاز والبنزين والمازوت، حتى القميص وأجور النقل واللبن والبيض والشاي والبن و.. و.. وإلى ما لانهاية!

ينام المواطن وهو يحلم بالدولار.. ولا يصدق أن الشمس أشرقت على الأسواق، وغطت صورة المذيع شاشة التلفاز وتلونت بابتسامته وبشاشته.. ينظر إليه بفرح وهو يقرأ نشرة الأخبار الصباحية، والختام مع سعر الدولار، لكن المواطن الذي يعيش سحر الانتظار يغلق التلفاز ويعرف سلفاً، أن الدولار يرتفع في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء وقبل النوم.. والأسعار ترتفع أيضاً. وإذا أصيب بومضة فرح عابرة، وانتظار انخفاض الأسعار، فهو يعيش خارج قوانين الحياة، ولا يعلم أن الليرة السورية تمارس التمارين السويدية تحت شعار: كلما ارتفع الدولار انخفضت قيمة الليرة وتضاعفت الأسعار أكثر من ثلاث مرات!

العدد 1107 - 22/5/2024