ما أفقر العالم إذا خلا من حنان الأم… عيد المعلم ومنارات العطاء

في حضرة عيد الأم، لا أستطيع تجاوز نداء القلب، وغير قادر على كبح جماح دمع، يتساوق في العينين، لأن الموت غيّب والدتي، فأستحضرها وأقول: ما أفقر العالم إذا خلا من حنان الأم!

وفي عيدها أحتاج إلى الكتابة، لأنني مملوء بالدمع ومسكون بالآهات والغصص، وكأنني أعيش مجمرة حزن مقدس!

في عيد الأم، تنتصب والدتي الحاضرة الغائبة سارية محبة، ومنارة فخر، فتشتعل شموع الحنين، وتتوهج الذاكرة بأربعين عاماً، قضيتها بين يديها، في أهدابها، أمام ناظريها، وتعود الأيام الجميلة التي كُنا نرفل فيها، وينهض الشوق المخبوء، وتتفجر أصدق الكلمات. مع أنني أدرك أن الموت هو الحقيقة المطلقة المؤكدة في حياتنا، إلا أنني لم أكن أعلم أن الابتسامة الحانية المرتسمة على وجهكِ، ستغادرنا إلى الأبد، وأن الصوت الدافئ الرخيم الطافح بكل الحنان سيختفي، وأن الحس المتوفّز للخوف علينا والتضحية من أجلنا سيزول.

آه.. ما أصعب الحقيقة، وما أفدح المصاب.. لقد غاب المثل الأعلى، والمظهر الأجلى لكل شيء في حياتنا.

أمي الفاضلة!

إن السنين دربتني على استيعاب الألم والتعايش معه، وأعلم أيضاً أن الباقين في القلب ليسوا من الراحلين، كما أن الزمن يتسع للبناء والحياة.. وأعرف أنك ترفضين أن تُحطّمنا الأقدار والرزايا، فحيثما توجد الحياة، هناك موت أيضاً.. وثمة أشياء أعظم من الموت، وأجل من الحياة نفسها. أما الوفاء لك، فهو عزاؤنا برحيلك، وفي أغصانٍ وأوراقٍ لشجرةٍ.. أنتِ الجذور الطيبة لها، والجذع الذي يحملها، فأنت تمتدين في خالد ولجين وقطر الندى وأحمد وهديل، وكلهم يتضرعون طالبين الرحمة لروحك الطاهرة.

وأتمنى أن تكون كلماتي منديلاً لمسح الدمع، وبلسماً لطرد الحزن.. وأقول: نضّر الله وجه والدتي ورحمها.

أما في عيد المعلم.. فأحار بين الصمت والكلام.. فلا الصمت ينفع، ولا الكلام يقنع، لأنني في حضرة المعلم، وما أدراك ما المعلم! إنه معين عذب، فرات سائغ شرابه، وأغنية خضراء، لا تهرم، ولا تموت، لأنها تشع بالحياة، وتتوشح بالخلود، وتتسامى لما بعد الأفق، ومرتسماتها بلا حدود.

في عيد المعلم، تنداح الذكريات الحميمة، حارة طازجة، أحسبها حدثت أمس أو قبله، مع أن جذورها تضرب في عمق الزمن، لأكثر من عقود مضت.. فأستذكر ذلك التلميذ الذي اقتاده شقيقه الأكبر في اليوم الأول من العام الدراسي، واقتعد مكانه في الصف الأول الابتدائي بمدرسة قرية زعورة في الجولان السوري المحتل، فدخل الأستاذ منذر بدر بطلّته البهيّة، وأناقته المفرطة، وابتسامته التي لا تغادر مُحيّاه، فوقع في نفسي موقعاً حسناً، فكنت من المتفوقين. كما أستحضر ذلك الشاب الذي كان يمسح السماء ببصر حاد شامخ، ويدك الأرض بقدمين قويتين ثابتتين، ويدخل قرية البيطارية التي أوغلت في البُعاد عند تخوم الصحراء مديراً لمدرستها، وما حييت لا أنسى وداعة أهلها، وتلاميذها النجباء.

في عيد المعلم.. أحاول مقاربة ضفاف بحر من العطاء، فأبحث عن المفردات، فتهرب الملفوظات، وتعتذر الكلمات، وتعترف المعاني بعجزها وتقصيرها عن التعبير، والوفاء لذلك المخلوق الأثيري الذي حاز أعظم الألقاب، وأنبل الصفات، واستحق بجدارة الاحترام والعرفان والتقدير من الجاحدين، ومن الأوفياء.

إنه المعلم.. له الفضل، ومنه ترشح الفضيلة، يبني العقول، ويسامق بها السماء، يصوغ الشعوب، ويؤسس للبقاء، يُعلي صروح الحق والخير والجمال.

في عيد المعلم، أحاول وأجتهد لوصفه وتوصيفه، ورد الشكر لأهله، لأن ثمة من يقول إن الكلمة عندما تأتي في مكانها، تعبّر عن العالم بأكمله، لكنني أفشل، لأن اللفظة المضيئة الوهاجة الموحية لا تُسلم قيادها، أو تتخلى عن جموحها إلا لسدنة الأدب الذي يرسمون هالات من نور وضياء بكلماتهم وإبداعهم، وأنا حديث عهد بصداقة الكلمة والحرف!

لكن ذلك لا يمنعني من القول: أيتها المعلمة الفاضلة، أيها المعلم المحترم! أنتم الهداة والأئمة، ممجدة أفعالكم، مباركة جهودكم، طوبى لكم في عيدكم. إن الفؤاد ليرتعش أمام إيحاءات الخصب هذا الصباح، أمام من يقطف ثمار الشمس، وعناقيد الغيوم، ويهبها مشكاة نور على مائدة العلم، فيرفرف الأطفال نوارس وحمائم ويمامات على شرفات من عبق وحبق، وألق وشوق وتوق، وبوح وفوح، فيجود النهار بأنواره، وتتلألأ ابتسامات البراعم البيضاء وتتدفق شرايين الحياة بالمحبة والضياء، وتتجدد مواسم الفرح ومواكب العطاء.

العدد 1105 - 01/5/2024