حـوار ثقافي

 كنا محرري جريدة (الغراب)، التي لا يصل صوتها إلى الآخرين لأسباب شتى، مجتمعين لإقرار مواد العدد القادم الذي لا ينتظره القراء طبعاً، وحتى الذين انتزعنا منهم اشتراكات سنوية بسيف الحياء والرفقة والصداقة كانوا يقتنونها ليستعملها العازبون منهم سفرة لوجباتهم السريعة، والمتزوجون يمنحونها لزوجاتهم لفعاليتها العالية في تنشيف البلور والطاولات والمطابخ بسبب نوع ورقها الأردأ.

لفتني، من بين المواد الواردة للصفحة الثقافية، لقاء مع كاتب مغمور أجراه أحد المحررين الناشطين، وقد ذكر في التعريف بالـ(كاتب) بأن له أكثر من مئة كتاب مطبوع ومثلها من المخطوطات التي لم تجد بعد طريقها إلى المطابع. ثم يبدأ الحوار (الغني) الذي يقدم فيه الكاتب إسهاماته في  إغناء الثقافة الوطنية على اختلاف تجلياتها ومجالاتها، ويشكو من التعتيم الذي يمارس على إبداعاته.

تذكرت تعريف الجاحظ للكتاب بأنه (وعاءٌ ملىء علماً، وظرفٌ حشي ظرفاً).

تساءلت بيني وبين نفسي الأمّارة بالسوء: كم لدى هذا الإنسان من أوعية علم أكثر من أوعيته الدموية؟ وكم يملك من الظرف وخفة الدم حتى استطاع أن ينتج خلال عمره الإبداعي هذا الكم الهائل من الكتب؟ ..ثم سألت السادة في هيئة التحرير، وبينهم كتاب وسياسيون ونقاد: هل سمع أحدكم بهذا الاسم؟ فكان الجواب بالنفي القاطع. فلم يعد أمامي إلا الاستعانة بصديق هو المحرر صاحب اللقاء، اتصلت به واتفقنا على اللقاء في اليوم التالي.

حين سألته عن الرجل، ضحك وروى لي أنه تعرف إليه في المقهى، وأن (الكاتب) اشتكى من التجاهل الإعلامي له، فانتخى الشاب وطرح عليه فكرة إجراء حوار معه لصالح جريدة (الغراب) لتكون السبّاقة إلى اكتشاف مناجمه، فتحمس الرجل ودعاه إلى منزله الكائن في ريف دمشق، وبعد العشاء الدسم والمشروب الفاخر سارع إلى مكتبته الضخمة ليقدم له نسخة من كل كتاب، ووضع الكتب في كيس قماشي كبير بعد أن أطلع المحرر على عناوينها، وكان يغلب عليها الشعر، أو ما يسميه صاحبنا شعراً، ثم أغدق عليه بالمخطوطات التي تنتظر النور، ليبدأ الحوار الشيق الطويل معه.

ثم كلّف ابنه البكر بحمل كيس الكتب معه إلى موقف السرفيس الذي سيقله إلى دمشق بعد هذه السهرة العامرة، وحين وصل إلى الكراج (عتل) الكيس إلى سرفيس آخر بشق النفس، ولم يصل إلى جسر الرئيس إلا وكان قد اتخذ قراره القطعي، لم يكن قد بقي من باعة الكتب القديمة تحت الجسر إلا واحد منهم، عرض عليه المحرر شراء الكتب التي في الكيس (قشة لفة) وحين أفرغ محتوياته أمامه وتمعن فيها برم شفتيه وقال: ما لنا مصلحة.

بعد أخذ ورد قبل البائع بالصفقة لكن بسعر 25 ليرة سورية لكل كتاب، وهكذا تخلص من حمله الثقيل وقبض 2500 ليرة عداً ونقداً، وهو ما يتجاوز استكتابه عن المادة فيما لو وجدت طريقها إلى النشر في (الغراب).لم يكن شكّي في مكانه، فالرجل لديه فعلاً مئة كتاب مطبوع لم يقرأها حتى موظف الرقابة ربما، بل جاءت الموافقات تباعاً كون المواضيع التي يتناولها ليست ملغومة ولا تلامس أياً من المحرمات الثلاث أو مشتقاتها، بل إنها لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.

عدت إلى معلمنا الجاحظ فقرأت له: الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يمَلّك، والمستميح الذي لا يؤذيك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق. وأيقنت لو أن الجاحظ تعرّف إلى صاحبنا وكتبه لغيّر أقواله، بل إن المتنبي، الذي قال عن الكتاب بأنه خير جليس في الأنام، لو عاش حتى يتيسر له قراءة نتاج هذا الكاتب لأعاد النظر بالبيت وربما هجر الكتابة إلى مهنة أخرى، تاركاً الساحة لأمثال هذا الكاتب النحرير.

هكذا.. بعض الأثرياء، الذين نالوا كل ما حلموا به من مباهج هذه الدنيا الفانية، يستكثرون على أهل العلم والأدب ما يصلون إليه من شهرة وقيمة معنوية، فيزاحمونهم عليها مستخدمين الطريق نفسه الذي أوصلهم إلى الثراء.

العدد 1140 - 22/01/2025