زوارق من ورق..

 من منا لم يصنع زورقاً من ورق، ويرميه في الماء؟

كثيرون فعلوا ذلك، ولصناعة قارب من ورق، ماعليك إلى أن تقص صفحة من دفترك، ثم تطويها في المنتصف، وتعود لتطوي طرفيها، ثم تقلب الأسفل إلى أعلى، ثم تسحب اللب، فإذا الصفحة تتحول إلى زورق صغير يتغير حجمه بتغير حجم الصفحة الأولى!

في لعبة من لعب خيالتي الكثيرة، صنعت زورقاً من هذه الزوارق، وركبت فيها، كما يرقب القبطان سفينته في قلب الموج العاتي. قلت في نفسي:

ــ ( سأسافر..! فلتأخذني الرياح أنى شاءت في عرض البحر)!

وكان البحر غاضبا في شتاء بارد تمكن فيه من رمي البواخر فوق الرمل، وكنت مصمماً على الإبحار في قاربي الوهمي ذاك. فمشى القارب يشق طريقه وسط الموج، وكما يفعل المخرجون في السينما والتلفزيون، غابت المشاهد الأولى وسط صخب موج عات في عرض البحر يتقاذف مركبي الورقي.. وهذا يعني أن المركب أقلع في رحلته الوهمية..  كنت أحلم أن أصل إلى هناك. إلى الضفة الثانية من العالم وراء المحيط لأقول لهم شيئاً مهماً بالنسبة لي:

ــ لماذا أخذتم فلسطين؟!

لم أجد أحداً في الضفة الثانية. لم ينتظرني على تلك الشواطئ سوى أحلام مكسرة سبقتني، وسبقت تصورات شخص يقلد الدون كيشوت في معركة من معاركه!

كان المركب قد تبلل في الماء فيما أنا أعود من الضفة الأخرى للعالم محبطاً من واقع لايرحم!

قبل أسابيع وقفت على ضفة نهر بردى.. كان النهر يصفق بمياهه العذبة المتدفقة كأنه ملك زمانه، كان رأسه مرفوعاً وجبينه عالياً مثل فارس شجاع عاد لتوه من معركة انتصر فيها، وكانت مياهه العذبة قادرة على غسل أشجار الغوطة كلها سبع مرات..

راودني الخاطر من جديد: سأصنع زورقاً من ورق، وأمضي عبر النهر، سأقود زورقي بمهارة ربان يعرف كيف يغالب الرياح، وأحاول الوصول إلى الناس على ضفاف بردى..

أخرجت صفحة من ورقة كانت معي، طويتها، كما تصنع الزوارق الورقية تماماً. كتبت عليها: يارب نجِّ سورية. يارب ليس في يدي غير الدعاء، وليس في قلبي غير المحبة!

رميت الزورق في ماء النهر. كان نهر بردى يفور عند التقائه بمفيض نبع الفيجة، وكان زبد مياهه العذبة يصنع هالة بيضاء تشرق أملا.. وبعينيَّ هاتين شاهدت الزورق يغالب ماء النهر.. شاهدت النهر ينصاع..

ــ إي أيها النهر.. إحذر أن تخرب مركبي!

هدأ النهر.. مشى الزورق في قلب لجة الماء.. كان السوريون ينظرون إلى معجزة زورق الأمنيات، وينادون:

ــ يارب نجِّ سورية! يارب ليس في قلوبنا سوى المحبة!

وفي تلك اللحظة عرفت جيداً كيف يمكن للمحبة أن تصنع المعجزات، وكيف لحلم الدعاء أن يفتح أفق الحقيقة!

العدد 1104 - 24/4/2024