كيف نحدّ من الغزو الاستهلاكي ومخاطره؟!

 بناء المجتمع وتقدمه مرهونان بما يكتسبه الأفراد  من علمٍ وفكر وثقافة ومهارات ومعارف ومهن يستنفدها في سبيل زيادة ثراء المجتمع والفرد  اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً  وتكنولوجياً، وخلال مسيرة هذه المجتمعات المتقدمة  كانت تتمدد على حساب مجتمعات أقل حداثة وتطوراً وفقراً  تحت مسميات (احتلال – فتح – سيطرة – انتداب…)، فكانت تنهب خيراته وثرواته وموارده وتجعله سوقاً لمنتجاتها  تحت عنوان وشعارات الرفاهية  والارتقاء بالمستهلك والأمان الاجتماعي، من خلال تحريك الرغبات والطموحات والأحلام  لمستهلكي سلعها.

وبذلك تحوله إلى مجتمع مستهلك وتصبح حالته مأساوية لأنها تتجاوز ميدان الاقتصاد والاستهلاك لتصبح ظاهرة ثقافية مغايرة لثقافة المجتمع المستهلك وعاداته وتقاليده، فتسهل القضاء على هويته الثقافية والوطنية وتغير أيضاً من مفهوم الاسرة القائم على القيم الاجتماعية الفطرية.

وأيضاً نتيجة لتطور تكنولوجيا الاتصالات والإعلام والإعلان، أدى لتطور العلاقات التجارية التي فتحت آفاقاً جديدة للمنافسة والاحتلال والاحتكار والسيطرة على الأسواق،  وتحويل العالم إلى سوق عالمي واحد وربط الاقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي وتحرير التجارة، وقد لعبت الاتفاقيات التجارية الدولية دوراً في فتح الأسواق العالمية دون ضوابط أو عوائق توجهها مؤسسات ومنظمات دولية وشركات متعددة الجنسيات، مما سهل تشكيل شخصية المستهلك وفقا لشخصية السلعة المعروضة وتحول إلى ماركة أو علامة تجارية.

لذلك فقد نهجت سورية منهج التنمية الاقتصادية والاجتماعية واعتمدت على التخطيط وفق أولويات معينة والاعتماد على الذات في تحقيق أهدافها الاقتصادية، وذلك لتشجيع الادخار وزيادة الاستثمار وترشيد الاستهلاك. وهذا ما أكده المشرع السوري في المبادئ الاقتصادية للدستور لعام 2012 حيث نص في المادة 13 :

(1-يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل…

2-تهدف السياسة الاقتصادية لتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة

3- تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنع الاحتكار في مختلف المجالات الاقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل بما يخدم الاقتصاد الوطني).

فالنهوض بالموارد البشرية لبناء الإنسان يعتمد على تأمين أهم السلع، وهي تلبية الحاجات الأساسية من تعليم وسكن وصحة والمشاركة المجتمعية لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. أما تلبية السلع الكمالية والتي تحقق الرفاهية فقد وضعت الحكومة السورية استراتيجية عامة للاقتصاد الوطني فرقت بين الاستهلاك الضروري والأساسي، والاستهلاك الترفيهي والكماليات، فجعلت ترشيد الاستهلاك متناسباً مع طبيعة الاقتصاد، فقد حددت استيراد أعداد كبيرة من السلع لأنها كمالية وأوجدت بديلاً وطني عنها.

ولكن نتيجة للغزو الاستهلاكي الذي يسود عالمنا المعاصر والذي تخطى حدود الدولة سياسياً عبر القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، فقد وصل الفرد باختياره إلى الانهزامية والاستلاب وكرست لديه روح السلبية والاعتماد على الآخرين لتلبية احتياجاته ونشر روح الفردية الأنانية بالتميز في اقتنائها، فأصبح يقبل على شراء السلع بأسعار باهظة لتحقيق الوجاهة الاجتماعية بغض النظر عن حاجاته الفعلية، فأصبح الاستهلاك يستنفد طاقاتنا وأموالنا ورغباتنا وصحتنا دون مقابل وأيضاً يستنزف ثروة المجتمع وساهم في ذلك زيادة المولات والأسواق التجارية التي ساهمت في زيادة البطالة وانتشار الفقر والجهل والتخلف الاقتصادي والانحراف عن الأهداف المثالية.

فتذليل المشاكل المتعلقة بالاستهلاك يحتاج إلى تغيير أنماط وحياة وسلوك المستهلك وحمايته من الاستغلال والتصرف به كأداة يتحكم بها المنتج وإعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز قيم العمل وزيادة فرصه وتحمل المسؤولية وزيادة الإنتاج والاستفادة من التقنيات الحديثة لرفع معدلات النمو والتشجيع على البحث والتطوير والقضاء على البيروقراطية والروتين وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية وتحديث وتطوير الأنظمة والتشريعات المتعلقة بحماية المستهلك ومنع الاحتكار وإزالة المعوقات والتعقيدات الروتينية لتنفيذ هذه الأنظمة  للارتقاء بسلوك المواطنين الاستهلاكي وتوعيتهم بما لهم وما عليهم لبناء شخصية إنتاجية مسؤولة وترسيخ ثقافة الانتماء والمواطنة والاستهلاك الإيجابي وأيضاً تشجيع الاستثمار الحكومي بدلاً من خصخصة القطاع العام وإعادة هيكلة المؤسسات الصناعية في القطاع العام لامتصاص البطالة وبناء قدرات الشباب عبر تحفيزهم لبناء مشاريع صغيرة خاصة.

العدد 1104 - 24/4/2024