التحوّل من الإرهاب إلى الاعتدال

من يصدّق أن الولايات المتحدة الأمريكية تحوّلت من دولة إرهابية إلى دولة (تناضل ضد الإرهاب)؟! ومن يستعيد صفحات من تاريخها يعرف دون إرشاد أو توجيه من أحد، أن هذه الدولة المتطورة نهضت وسارت على قدميها على أنقاض الهنود الحُمر وأبادت السكان الأصليين..! هل هذه الدولة قد رفعت شعار العدالة بين ليلة وضحاها؟ كيف؟ ولماذا؟ وما الهدف من ذلك؟ أليس هناك ما يشبهها..؟ فهذه بريطانيا (العظمى) أيضاً أبادت شعوب أستراليا البدائية وأسست مملكتها على جثثهم..!

لقد تعددت تسميات ومصطلحات الاعتدال في سياسة البيت الأبيض، لكن من يعود إلى أرشيف مراكز البحوث الأمريكية يقرأ الكثير من الكتب الصادرة حول مصطلح (الاعتدال). وقد ظهر قبل عقد مضى تقرير بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، اعتمدت الولايات المتحدة فيه على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الشيوعي، وأن تستفيد من تراكم هذه الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر. وعلى هذا الأساس دعم البيت الأبيض جماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي في البلدان الإسلامية، وذلك كي تتصدى لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي تصنف تحت اسم (تيارات متطرفة)، وأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مخالفاً ومتناقضاً مع المفاهيم الإسلامية.

وفي أواخر القرن العشرين عام 1999 صدر كتاب بعنوان (مواجهة الإرهاب الجديد)، وهو خلاصة مكثَّفة لأفكار وأبحاث أهم خبراء الإرهاب، الذي أجاب عن سؤال، ما إذا كان هذا الإرهاب يشكل خطراً استراتيجياً على الولايات المتحدة أم لا؟ وأشار الكتاب إلى أن الإرهاب الجديد سيتركز في منطقة الشرق الأوسط، وسيهدد مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وهكذا تتالت إصدارات الكتب والتقارير، ففي عام 2004 صدر تقرير بعنوان (العالم الإسلامي بعد 11 أيلول)، ركز على التوجهات الأيديولوجية في عدة مناطق من العالم الإسلامي.. وبيّن التقرير أن المسلمين لا يختلفون فقط في الرؤى الدينية، بل يختلفون أيضاً في الرؤى السياسية والاجتماعية مثل: (نظام الحكم، القانون، حقوق المرأة، حقوق الإنسان، التعليم.. وغيرها). ويتطرّق أيضاً إلى البحث عن المساواة المفتعلة بين الإسلام (المعتدل) وبين (العَلْمانية).

وقسّم الباحثون العالم الإسلامي إلى (مناطق سلفية) و(مناطق راديكالية) وثالثة (معتدلة). إذاً..! ركزت البحوث والدراسات على التمييز بين هذه المناطق ووزعتها إلى فئات مختلفة في بنيتها الفكرية والثقافية، من أجل التسريع بقيام التناحر والاقتتال في ما بينها. وكانت الاستخبارات الأمريكية تعمل على تقديم الدعم والمساعدات المالية والأسلحة ووسائط الترفيه لهذه المجموعات، كما يجري اليوم في سورية واليمن والعراق وغيرها. أي أن الاستراتيجية الجديدة التي تبنت (سياسة الاعتدال)، امتدت أكثر ورفعت شعار (الإسلام المدني الديمقراطي)، الذي يشكل بُعْداً شاسعاً بين من يعتمد في نشاطه (التكفيري والتطرف) على الدين الإسلامي لبناء دولة الخلافة الإسلامية، ومن انحرف حسب مفهوم هؤلاء عن الصراط المستقيم واتخذ اتجاهاً مدنياً ديمقراطياً.

لقد أنتجت الولايات المتحدة مصطلح (الجماعة المسلحة المعتدلة)، ومن ثم مفهوم (سورية الجديدة)، ومهّدت الطريق هي وحلفاؤها من الناحيتين (الإعلامية والسياسية)، ورأت أنه الطريق المختصر لتدريب خمسة عشر ألف عنصر خلال ثلاث سنوات بذريعة قتال (داعش).. وفشلت من أول خطوة عملية بعد أن خطفت (النصرة) عدداً من العناصر التي درّبت في تركيا ودخلت إلى سورية. وكانت واشنطن تعمل لتحقيق هدفين اثنين لن تتخلى عنهما، وتسعى لإقامة شريطين عازلين في شمال سورية وجنوبها، لتأمين الجماعات المسلحة وللضغط على حلب وشل قدراتها الاقتصادية نهائياً من جهة، ومن جهة أخرى لكي تؤمن في الجنوب الكيان الصهيوني وتضغط على دمشق..!

وتهدف الولايات المتحدة من اتباع سياسة المراوغة والكذب والعمل تحت شعار (المعارضة المعتدلة في سورية)،والحديث عن ضخ الأموال وتقديم السلاح وفتح معسكرات التدريب، تهدف إلى إطالة أمد المعارك والأزمة في سورية واستمرارها، من أجل إنهاك الدولة السورية واستنزاف الجيش العربي السوري وموارد سورية.

إن خريطة الطريق التي رسمتها واشنطن لتحقيق سياستها في المنطقة بإحداثيات التقسيم، أعلن عنها قبل أيام رئيس الأركان الأمريكي، ورأى أن الحل في العراق هو في التقسيم.. السؤال: هل يعقل أن أول دولة رأسمالية في العالم.. الإمبريالية الأمريكية التي صنعت الإرهابيين تتحوّل بهذه البساطة إلى دولة تؤمن بالعدالة وحرية شعوب المنطقة؟ 

العدد 1102 - 03/4/2024