غربة أبوين
وعد حسون نصر:
البداية.. شريكان في بيت الزوجية.. والنهاية طبق الأصل!
أنجبا أطفالهما، عبّدا الطرقات العسرة أمامهم بالحب، بالصبر والسعي لتأمين حياة كريمة لهم. وكلما كبرت واشتدّت سواعد الأبناء ضعفت قليلاً سواعد الآباء، وكلما استقام ظهر الأبناء انحنى ظهر الوالدين قليلاً.. وهكذا حتى يكبر أولئك الأبناء ليكونوا هم عكّازهم بالحياة.
لم يتوقع الأهل يوماً أن يغادر صغارهم العشَّ ويتوزعوا في أصقاع هذه الأرض، ولا أن تصبح حياتهم موحشة وبيوتهم فارغة باردة، أو أن تغدو سهراتهم حزينة غابت عنها الضحكة وسُرِقَت منها الفرحة وروح الدعابة. لقد تقلّص حجم الطبخة، وبعد أن كانت تلقى التوصيات لترك صحن طعام للغائب عن المنزل، تبقى الطبخة بشكل تلقائي ماكثة في ثلاجة المنزل لعدّة أيام! سُرِقَتْ نكهة الحلاوة من حلويات الأعياد، ولم تعد الأمهات تستيقظ من بزوغ الفجر لتصنع حلويات العيد وتخبئ القليل منه عن عيون أبنائهن لما بعد العيد والضيوف! جلسات السمر على شرفات الصيف غابت بغياب الأبناء، وبات الوالدان في غربة الفراق ينتظرون وبلهفة أن يُقرع جرس المنزل من غريب يؤنس وحدتهم! حتى الغسيل المتراكم والمبعثر في كل زاوية من المنزل غاب واشتاق للمّة الأمهات ولفوضى يوم الجمعة برفقة سفرة الفول، الأكلة الدمشقية الشعبية، والأصوات المترافقة مع هذا الصباح: (لك وين البصل؟ هاتوا فليفلة، جيبوا عصرة حامض وشوية كمون…). بات يوم الجمعة يوماً حزيناً للأبوين، فالباب مغلق من مساء الخميس. الجدران صامتة والأثاث بارد ساكن وحزين، مقل الأبوين متشبّثة بشاشة الجوال ينتظران اتصال أحد الأبناء فيؤنس صباحهم أو مساءهم، أو يشاركهم الغداء! غربة قاتلة يعيشها الأهل وخاصةً بعد أزمتنا الطاحنة وتردّي الأحوال وقلّة فرص العمل وضعف المستوى الاقتصادي والتعليمي والخدمي وسوء القطاع الصحي الذي جعل جيلاً كاملاً يسعى وراء السفر والغربة لتأمين مستقبله الغامض داخل البلد، فلربما يجد نفسه في بلاد أخرى.
هنا لابدَّ أن يُضحّي الأهل بمشاعرهم حيال أبنائهم وهم يراقبون تفاصيل نموهم وكبرهم ونجاحهم، ويرسمون مستقبلهم ويلونون طريقهم بالحب، لا بدّ أن يُضحّي الآباء لأجل سعادة أبنائهم بالسفر لتأمين مستقبلهم وإيجاد فرصة عمل تناسب دراستهم ومقدرتهم وتوفيهم حقهم مقابل جهدهم. حتى الأمان غدا حلماً منشوداً خارج حدود هذا الوطن ولابدّ لأبنائنا أن يحظوا بهذا الأمان. كم هو مؤلم أن تُربّي وتُراقب أدقّ تفاصيل أولادك، ضحكتهم، عدد أسنانهم منذ بزوغها، نطقهم للحروف وكلماتهم المنقوصة من بعض الأحرف، تلعثمهم، وشهادات المرحى في مدارسهم مترافقة مع ملاحظات معلميهم. شجارهم على الألعاب والكرة وأوراق الشدّة والحاسوب والجوال والأغاني والسماعات. هذه التفاصيل الدقيقة التي غابت عن الأهل باتت رصاصة القهر اليومي المُصوّبة على رؤوسهم وقلوبهم وهم يتذكرونها مع كل صباح ومساء، ومع كل حركة في المنزل البارد الذي غابت عنه روح الأبناء!
هذا حال الأهل اليوم، غربة رهيبة في البلاد رغم أن المُغتَرِب هم الأولاد، لكن من يحيا تفاصيلها وشعورها القاتل هم الآباء وحدهم، إذ لم يعد لحياتهم طعمٌ، ولم تعد تُزيّن الألوان ملابس الأعياد، بل بات الهم أكبر من تحضير معمول العيد، غاب كل شيء مع غياب فلذة أكبادهم، بردت الجدران وأُغلِقَتِ الأبواب التي لم تعد تُفتح الاّ بالحلم الذي يلمُّ الجميع فتكثر القهقهات، هي ثوانٍ وينتهي الحلم لنستيقظ من جديد على صباح بارد تكدّست على ذاكرته ثلوج الفراق!