الحمد لله وما بعدها

 أثناء مروري قرب حديقة عامة وسط دمشق، لفت نظري لافتة مكتوب عليها (مشروع النحت الفني على الأشجار القديمة)، ورغم أن الجو بكل أنواعه لم يكن مشجعاً على الضحك بتاتاً، إلا أني ضحكت، إذ اكتشفت أن هناك بيننا من لا يزال (فايق ورايق) بحيث يفكر بهذه المشاريع الفنية، إلا أني سألت نفسي: لكن من الذي سينفذ المشروع؟ أهم فنانون متطوعون، أم أولئك الذين ينامون في الحديقة بعد أن فقدوا بيوتهم؟ ثم من هذا الشخص الخيالي الذي يتوقع أن يجد شجرة قديمة للنحت عليها؟ ألا يعرف أن وظيفة الأشجار الآن أن تكون حطباً للتدفئة، لا أن تكون لوحة؟ إذن نستطيع أن نهتف الآن بكل فرح: (لسه الدنيا بخير يا حبيبي) ما دام عندنا أشجار لم تتحول إلى حطب بعد، وأما في الحقيقة فأنا أهتف هكذا كل مساء حين أشم رائحة الحطب من بيوت الجيران، لأني بعد فترة قصيرة سأبدأ بشم روائح أخرى غريبة عجيبة من المدافئ، أسأل فيقولون لي بأن الحطب الذي جمعوه قد انتهى وبدأوا بحرق الثياب القديمة، والجرائد المليئة بالوعود الحكومية الخلابة، إضافة إلى القمامة، والأغذية الفاسدة التي باعها لهم تجار الغفلة ! ثم يضيفون: لكن الحمد لله، على الأقل ما زلنا في بيوتنا…

وهذه (الحمد لله) لنا معها قصة طويلة، فقبل سنوات كنا نشكو ضعف رواتبنا وغلاء البيوت والسيارات، والمواصلات التعيسة، والخدمات الأكثر تعاسة، ولكن كنا نردد: الحمد لله فنحن ننعم بالعيش في أكثر بلدان العالم أماناً… بعد ذلك بدأت الأسعار بمسيرتها الجنونية، وصار الحصول على المازوت مناسبة تستحق التهنئة، أما جرة الغاز فصارت صالحة لتقدم مهراً لعروس، فصرنا نقول: الحمد لله، على الأقل الكهرباء موجودة، فهي تزورنا لتؤنسنا وتدفئنا، كما نطهو طعامنا بمساعدتها، وإذا بالكهرباء تصاب بضربة عين من عيون العدا، فتحرد، ولا نعرف كيف نسترضيها، ومع ذلك نقول: الحمد لله، عندنا حرامات نستطيع أن نلف أجسامنا بها عند الحاجة، ونجلس لنغني (يا ليل… يا عين) لأننا غير قادرين على فعل شيء آخر ونحن (مقمّطين) بهذه الطريقة ! ثم إننا نقيم تحت سقف يأوينا، وهذه نعمة عظيمة، ولكن الذي حصل بعد ذلك أن سقوف أكثرنا طارت، وصار معظمنا يقطن تحت سقوف مستعارة، إما تكون مرصعة بالنجوم و أو مصنوعة من شوادر الأمم المتحدة، أو في أفضل الأحوال سقف غرفة نستأجرها في أي مكان آمن، مع ذلك ردد الرجال: الحمد لله لقد سلمت أرواحنا، وقالت النساء: الحمد لله لقد تخلصت من السكن قرب حماتي، بينما صاح الأطفال: لقد ارتحنا من الذهاب إلى المدرسة…

وبعد أن اعتاد الجميع على عيشة (الشنططة) صاروا يستمتعون بطعم الخبز ويقولون: اللهم أدم علينا هذه النعمة، وكان طبيعياً أن يرتفع سعر الخبز وتسوء نوعيته، لكن هذا لم يمنع أن نقول: الحمد لله على كل حال، فهذا سيساعدنا على الحفاظ على رشاقتنا! ثم إننا نعيش هكذا على طريقة الحكماء والفلاسفة مادام عندنا الخبز اليابس والماء، وفجأة، ولأسباب غامضة ربما سياسية أو ربانية – أي لا يعرف سببها غير الرب – انقطعت المياه، وبدأت النساء بالولولة كلما مررن قرب الحنفية الجافة، وتذكرن بأن أواني الطعام والثياب ورؤوس الأطفال كلها تحتاج إلى الغسيل ولا وجود لقطرة ماء، أما الرجال فقد جلسوا يحكّون رؤوسهم وهم يقولون: الحمد لله ما زال في الإبريق ماء كاف لشرب المتة!

والآن هذا هو الوضع الميداني للمواطن السوري، ونستطيع أن نعمل على الشجرة منحوتة تمثل قصته، وحين تأتي قذيفة تقصف عمرنا، سوف تصعد أرواحنا إلى الأعلى، وفي حال استطاعت عبور السماء المزدحمة بطائرات حربية من كل شكل ولون، فإننا سنقول وقتئذ: الحمد لله، لقد تخلصنا من تقنين الكهرباء وأجرة البيت، ومن النقاشات حول أسباب ارتفاع سعر الدولار!

العدد 1140 - 22/01/2025