حذار من إهدار تضحيات شعبنا الغالية

من الواضح أن حصاد (البيدر) السياسي الفلسطيني في الحرب العدوانية الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، كما تعكسه اتفاقية وقف إطلاق النار، متخلف بوضوح عن أداء المقاومة الفلسطينية المسلحة على الأرض، وليس من المتوقع أن تسفر المفاوضات، بعد سريان وقف إطلاق النار، عن تغيير نوعي في هذا الشأن. فالحديد – كما يقول المثل – يطرق وهو حامٍ، وبخاصة مع هذا العدو.

فحين سحب المعتدي قواته البرية من القطاع، كان هذا إقراراً واضحاً منه بفشله في تحقيق أهداف هذا العدوان، وحتى المعلنة منها. أما تواصل الغارات الجوية بعدئذ، والاغتيالات، فكانت لمجرد الانتقام من جانب، ولتغطية فشله أمام جمهوره من جانب آخر؛ هذا الجمهور الذي غدا أسير حالة من الارتباك والتخبط لا يحسد عليها، تجلّت في موجات نزوح العائلات الإسرائيلية بالمئات من محيط القطاع، وفي شلّ حياته العادية لأكثر من سبعة أسابيع، رغم طمأنة وزير الحرب (يعلون) لهذا الجمهور مع بدء العدوان على القطاع، أن (علاج الأنفاق سيستمر يومين أو ثلاثة)! هذه وغيرها، ولا سيما الخسائر الجسيمة في النخبة من جنوده وفي اقتصاده، هزّت ثقة هذا الجمهور بقيادته، كما تشير استطلاعات الرأي التي سجلت تدنياً في شعبية نتنياهو، خلال ثلاثة أسابيع من القتال، بمقدار25%. وقد فجّرت هذه التداعيات لفشل أهداف العدوان وانعكاساتها على الشارع الإسرائيلي خلافات وتعارضات داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل. وقد تمحورت هذه الخلافات والتعارضات بين من يرى أن مواصلة العدوان البري ستؤدي إلى مزيد من الخسائر والفشل، وبين من يريد معالجة هذا الفشل بتوسيع الغزو البري ليشمل القطاع كله. لكن توسيع الغزو البري ليشمل القطاع كله مقدر له، لو وقع،أن يؤدي إلى مأزق سياسي وعسكري أعقد بما لا يقاس. فحتى لو نجح ذلك، فسيكون الثمن باهظاً جداً بمعايير ثمن اجتياح لا أكثر من كيلو متر واحد خلال هذا العدوان؛ أما على الجانب السياسي فسيكون الإسرائيليون، بتدميرهم لسلطة حماس، قد أجهزوا بأيديهم على الانقسام الفلسطيني، بينما أحد أهداف هذا العدوان إجهاض ما تحقق، فلسطينياً، حتى الآن، لتجاوز هذا الانقسام. وقد عاد نتنياهو، بمجرد وقف إطلاق النار، ليخيّر عباس، من جديد، بين الوحدة مع حماس أو (السلام) معه.

لقد اعتبر الإسرائيليون وقوع الانقسام الفلسطيني إنجازاً استراتيجياً من الدرجة الأولى لهم، واعتبروا استمرار سلطة حماس المنفصلة في القطاع تجسيداً لهذا الإنجاز الإستراتيجي، ولكن مع الحرص على إبقاء هذه السلطة ضعيفة، باستنزاف قوتها بين حين وآخر، كما يشير إلى ذلك، عدا العدوان الأخير، عدوانا 2008 و2012. لذلك فالقضاء على سلطة حماس، والحالة هذه، باجتياح كامل القطاع، سيعيدهم ثانية مسؤولين مباشرين عن هذا القطاع، الأمر الذي هربوا منه على يد شارون. وبطبيعة الحال لا يمكن لسلطة عباس أن تعود إلى القطاع على ظهر دبابة إسرائيلية.

وجاء خطاب السيد خالد مشعل في الدوحة، عاصمة قطر، وتصريحات الرئيس عباس المتزامنة والمتعارضة ليفسرا الخلل بين الأداء السياسي والأداء العسكري الفلسطيني خلال هذا العدوان. فالسيد مشعل يعزو الفضل في الأداء العسكري المتميز للمقاومة الفلسطينية هذه المرة، لدعم المعسكر السياسي – الأيديولوجي الذي ينتمي إليه، ولم ينس أن يمتدحهم بالاسم، بدءاً بحكام قطر وانتهاءً بالرئيس التونسي، وطبعاً لم ينس فضائية الجزيرة القطرية ! مع تجاهل لافت لدور محور الممانعة: حزب الله – سورية -إيران، صاحب الفضل الحقيقي في تزويد المقاومة الفلسطينية بمقومات القتال من أسلحة وتكنولوجيا وتدريب. لكن تصريحات قادة الفصائل الأخرى، التي شاركت بفعالية في هذه المعركة تباينت بوضوح عن أقوال مشعل، ووضعت الأمور في نصابها الحقيقي. ويمكن الاعتقاد بأن الجناح العسكري لحماس لا يتنكر لهذه الحقيقة الساطعة كما فعلت قيادته السياسية، هذا الجناح الذي لم يكن دوماً على وفاق وانسجام معها.عدا ذلك، حاول السيد مشعل في خطابه أن يجيّر أداء المقاومة الفلسطينية في هذه المعركة لتنظيمه حماس، الحاكم في القطاع، مع العلم أن تنظيمات وفصائل فلسطينية متعددة أخرى ساهمت بفعالية في هذه المعركة، وعلى رأسها الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، ونأت بنفسها عن الارتباط بالمحاور المشبوهة في المنطقة، وفي الوقت ذاته حرصت على علاقات كفاحية مع محور الممانعة، المصدر الحقيقي لدعم المقاومة الفلسطينية.

أما الرئيس عباس فقد أعلن بأن قرار الحرب والسلم بيده ! لكن هذا الإعلان ليس أكثر من ردة فعل عاطفية على فقدانه زمام المبادرة. فالحرب، كالعادة في كل مرة، أعلنها المعتدي الإسرائيلي. أما السلم أو (الهدنة) فأعلنها من يقاتل على الأرض. وهكذا، وقبل أن يجف الدم الفلسطيني الغزير الذي أراقه المحتلون في هذه المعركة، عادت المناكفات الفلسطينية – الفلسطينية، بين القيادتين السياسيتين لفتح وحماس، اللتين ارتضتا تحويل القضية والدم الفلسطيني الطهور إلى مادة لمماحكات المحورين المشبوهين في المنطقة، اللذين مهما اختلفا في العلن فهما مربوطان، آخر الأمر، إلى عجلة واحدة، وبالتالي، ليسا مع أي مكسب أو انتصار للقضية الفلسطينية عبر المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً، لتبقى هذه القضية أسيرة المناورات الأمريكية – الإسرائيلية.

بمعنى آخر، إن أي إنجاز للقضية الفلسطينية عبر المقاومة: مسلحةً كانت أو شعبية، هو بمثابة إعلان الإفلاس التام لنهج المفاوضات الثنائية مع المحتل بالوساطة الأمريكية.

وبدل التوجه بحزم، ودون تردد، كما أُعلن في البدء، إلى الأمم المتحدة ومختلف مؤسساتها، وبضمن ذلك الانتساب لمحكمة الجنايات الدولية، باعتبار ذلك سبيل عباس الوحيد لاستعادة زمام المبادرة في القضية الفلسطينية بعد مواقفه المترددة خلال معركة القطاع.. بدل ذلك، وجّهَ وفده إلى واشنطن! تعبيراً عن إصراره على العودة إلى الدوران في الحلقة المفرغة للمفاوضات العبثية تفسها! وبهذا يكون عباس، أراد أم لم يرد، يأخذ بيد نتنياهو لإخراجه من أزمته الداخلية. أما مطلبه الذي حمله وفده إلى واشنطن بتحديد موعد زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فقد رفضَتْه واشنطن، كما هو متوقع.

وإذا ما واصل عباس إصراره على المضي في طريق المفاوضات العبثية نفسها، فإنه يكون قد غامر بحرق آخر أوراقه في قيادة الشعب الفلسطيني، وسيتحمّل قسطه من المسؤولية عن إهدار الدماء الغزيرة والدمار المروع الذي لحق ويلحق بالشعب الفلسطيني بسبب إطالة أمد الاحتلال وجرائمه.

العدد 1140 - 22/01/2025