الديك الفصيح

لست أنسى ذلك اليوم أبداً، فقد تعلّمت فيه أنا وإخوتي درساً رافقنا طوال مسيرتنا في الحياة.

في ذلك اليوم، وكنا لم نزل صغاراً بعد، كل ما يشغلنا ويهمنا أن نلعب، ونقوم أحياناً بتلبية الطلبات البسيطة التي تكلِّفنا بها أمي أو أبي أو سيدي، وكان ما يشغل أهلنا الإشراف على دراستنا وصحتنا. وللحقيقة أقول إننا كنا نعيش حياة مستقرّة وهادئة، وعلى درجة عالية من الكفاية، إن لم أقل بترف وبذخ، فقد كانت الأوضاع الماديّة لوالدي وسيدي جيّدة جداً.

يومذاك، وعلى غير عادة، عندما عاد جدّي من متجره، كانت تبدو على وجهه علامات الغضب، والتأفف، فلم نجرؤ على الاقتراب منه، واكتفينا بتقبيل يده، وجرينا إلى غرفنا الخاصة.

عندما عاد من المسجد بعد صلاة العشاء، بدا لنا في حال أفضل، وسرعان ما جمعنا حوله، وكلنا شوق للاستماع إليه.

قال بعد أن بسمل وافتتح كالعادة:

 أنتم تعرفون مسعود؟

نعم نعرف مسعود، فهو شاب يعمل مع جدّي في المتجر، لكننا لم نكن نعرف عنه غير ذلك، وهذا ما شد انتباهنا، وبعد أن أومأنا برؤوسنا إيجاباً، قال جدّي، وهو يحرك السُّبحة بين يديه بعصبية:

 لقد أثار غضبي اليوم بغبائه الشديد، فقد أرسلته إلى أحد زبننا ليستعلم منه عن عدد صفائح الزيت التي يطلبها.. ذهب وعاد سريعاً ليقول لي إنه يطلب عشر صفائح.. فسألته: وهل قال لك شيئاً عن نوع الزيت الذي يريد؟ فعاد مسرعاً للزبون، ورجع ليقول لي: يريد زيتاً من النوع الثاني.. قلت له: وهل سألته كيف سيستلمها؟ عاد مسعود مرة ثالثة ليقول لي: سيستلمها من مستودعاتنا.

وهكذا يا أولادي يذهب في كل مرة ويعود دون أن يستعمل ذكاءه للاستفسار عن كل شيء، وهو يعمل عندي ويعرف طبيعة أعمالنا.

رحنا نتطلع في وجوه بعضنا نتساءل دون أن نعلن: وما المشكلة في ذلك؟

سكت جدّي طويلاً، ونحن ننتظر.. وفجأة ألقى بالسُّبحة الزيتونية في حضن عباءته المشمشية وقال:

 هذه الحادثة ذكّرتني بحكاية جميلة ومفيدة أتمنى أن تفهموها وتأخذوا العبرة منها.

اقتربنا من سيدي أكثر، وكلنا آذان مصغية.. قال:

 يحكى أن صبيّاً صغيراً نحيلاً اسمه (صفوان) كان يعمل عند تاجر كبير اسمه (مالك)، كان يطلق عليه في ذلك الوقت اسم (شيخ بندر التجار) تدليلاً على مكانته، وكان مالك يحب ذلك الصبي صفوان حباً جماً، مما أثار حفيظة الحاسدين، وخاصة الحاج محمود وهو أحد أصدقاء شيخ بندر التجار الذي كان يطمح أن يكون ابنه (عبّاد) -الذي كان يشتغل أيضاً عند التاجر مالك- لو يحظى بالمحبة والاهتمام. وقد انتبه مالك إلى ذلك، وأراد بطريقة ذكية، وغير مباشرة أن يفهم صديقه الحاج محمود السبب في محبته لصفوان.!

تناول جدّي كأس الشاي ورشف منه بتلذذ، ونحن ننتظر تتمة الحكاية.. قال:

 في يوم من الأيام وقف التاجر مالك وصديقه على شاطئ البحر يتفرجان على سفينة قادمة محمّلة ببضائع، ويقف وراءهما الصبيان صفوان وعبّاد، عندما طلب التاجر مالك من الصبيين ركوب مركب صغير، والذهاب إلى مكان رسوّ السفينة، والسؤال عن البضاعة التي تحملها.

ذهب الصبيان على عجل، وعندما عادا طلب شيخ بندر التجار من صديقه الحاج محمود أن يكون شاهداً على ما يجري من حديث وسأل عبّاد: ماذا وجدت؟ قال: إن السفينة تحمل توابل.. سأله مالك، ومن أين؟ سكت عبّاد حائراً، لكنه طلب من سيده أن يعود ليستفهم عن ذلك، لكن التاجر مالك منعه، وقال له: حسناً ابتعد من هنا، ونادى صفوان وسأله: ماذا وجدت من أمر السفينة؟ أجابه صفوان: إن السفينة تحمل توابل من بلاد الهند، والقبطان من أصل يمني، وتحمل أيضاً أصنافاً من الحرير. أما التوابل فهي كذا وكذا، (وعدد له أنواعها وأصنافها) وكمياتها كذا وكذا، وأسعارها كذا وكذا.. أما الحرير فهو من نوع كذا وكذا، وسعر الذراع كذا، والكمية، وإن السفينة ستقيم في مكانها خمسة أيام فقط، وقد سألت القبطان إن كان يستطيع حمل بضائع من عندنا، فوافق على أن يلتقي بك للاتفاق، وقد حدد مساء الغد موعداً ليأتي ويلتقي بك.. وهكذا أجاب صفوان عن كل الأسئلة التي تهم التاجر.

ضحك جدّي ضحكة كبيرة وأردف:

 عندما التفتَ شيخ بندر التجار إلى صديقه ليقول له عن السبب في تفضيله لصفوان عن ابنه عبّاد.. لم يجده، فقد غادر صديقه الحاج محمود المكان، وهو يشعر بالخجل.

مسح جدي على لحيته البيضاء الفضيّة وأردف:

 وهل أجمل من أن يكون الإنسان ذكياً وفصيحا؟!

العدد 1140 - 22/01/2025