افتراس

أسابق الزمن وكالمكوك الطائر أطوي الفضاء، فأقفز من محطة إلى أخرى لئلا يفوتني رأي لشخصية اعتبارية تدلي بدلوها المترع بالماء المالح بشأن سيمفونية الفصول الأربعة، التي تعزفها الشعوب العربية بصخب ونشاز شديدين على آلات متعبة. والكثير منها آراء تشبه عدمها، من مثل هذا الرأي الهادئ: هذا لا يجوز، ومن المزعج وجود ذلك الكم الهائل من العنف في سورية. أو آخر يقول مشكوراً على جهوده: لا يوجد خلاف على أن الوضع سيئ، وهو يهدد الأمن العام في سورية والمنطقة كلها. وهذا أيضاً يبشرنا: يجب معاقبة المتسببين بإراقة الدماء على هذه الأرض الطيبة. ثم يتحنن علينا الأمين العام للأمم المتحدة بطلبه من أحد المسؤولين الرأفة بالشعب السوري، وهكذا…. تصريحات وشجب وتنديد واستنكار واتفاقيات ومبادرات سرية وعلنية، ودون أن يتوقف شلال الدم عن حفر صخر ذاكرة الوطن لينحته أفقاً جديداً. وقد بتُّ من المدمنين على هذه المحطات، ثم.. (بشحطة فرام) على مكابحي انتبهت إلى أني منذ زمن طويل لم أستمع لأغنية، أو أشاهد فيلماً، أو حتى مسلسلاً درامياً، وأن روحي قد تصحّرت.

لذلك اتخذت قراري بعدم مشاهدة القنوات أو البرامج السياسية المؤيدة والمعارضة، لأن هذا الثوب الجديد الذي حاولنا في البلدان العربية تفصيله باختلاف مقاساتنا الاجتماعية والسياسية والتاريخية يحتاج وقتاً طويلاً كي يخرج بكامل أناقته، أو حتى بجزء لابأس به من الأناقة وبلا مزركشات مكملة. لكن الذي حصل معي أني كالمغيبين أو المسلوبين ذهنياً، أراني أحدِّق  في الشاشة متنقلة من فيلم إلى مسلسل دون تركيز أو فهم لمسار الأحداث. ثم أكتشف شرودي القسري في اللا متخيل من ويلات تسقى و تعتاش على دمائنا. أسأل هل بدأ بي ارتكاس ذهني؟ لا غرابة و الأكثر رهبة هو استنتاجي بأني بتُّ ألهو على نحو ما بهول الدمار والخراب، وأعد مع العدادين القتلى أو الشهداء وأسمي بعضهم، وكالتعساء الذين يسعدون بتعاسة الآخرين أسعد ضمنياً لأني لست منهم وبينهم. بالأمس كانوا عشرة، وما قبله وصل عددهم إلى ثلاثين، أما اليوم فالحصيلة المفجعة ستون، والحبل على الجرار. في الجمعة ما قبل الماضية وصل عدد شهداء التفجير إلى عشرين، أما تفجير الجمعة الماضية فأسفر فقط عن ثمانين شهيداً عدا الجرحى. هل سيكون تفجير الجمعة القادمة لا سمح الخالق بفظاعة أكبر؟ كل يوم يكبر العدد وتزداد أهوالنا؟

وقبل أن أستوعب فكرة قصة الحب الرومانسية، والحرب الكوميدية، والخيانة المتفق عليها من الطرفين في الفيلم، (تنقح) علي جميع حواسي كي أقلب المحطة، وأعود بتشوق إلى مشاهدة أفلام الرعب الحياتية الواقعية التي أودت بقلوبنا في قاع الأحاسيس، ملطخة بالوحل تفوح منه رائحة الموت، ولا أدري أي الفنون ستقدر على استيعاب وتصوير وتأريخ ما يحدث، فلكل شهيد قصة ولكل واقعة مؤامرة مدبرة.

وبعد حين وكي أندمج أكثر مع مظاهر الخوف، أقرر مشاهدة أحد أفلام الرعب التي أكرهها ليلاً، فحين أتسرب إلى الشاشة عبر موسيقا الإثارة، وأسيل مندلقة مع دم الضحايا، ترتجّ أرضي وتتحفز خلايا الدفاع من جسدي، فأرتعب مع أطفال المجازر، وأثور على ذلك الحيوان البشري المفترس الذي يقف أمامي يمسك خنجراً يستعد لطعني في صدري وتمزيقي أشلاء، ليس إلا لأنه تغذى على الانتقام لدافع وهمي متحجر في دماغه. 

أبكي بحرقة على هذا البلد كأنني المسؤولة عن كل ما يجري فيه من خراب أعجز عن مواساته، وأعتب على العاجزين مثلي، أنام وأستيقظ فزعة على صورة أشلاء الموتى متناثرة في عيوني، فأجدني متدثرة بلحافي الدافئ. وبلفتة نزقة أزيل بقايا هذا الخوف الذي أعيشه في سريري وتحت سقف بيتي ووراء بابه المحكم الإغلاق بأقفاله الأربعة..؟!

العدد 1140 - 22/01/2025