للوطن ذاكرة
يقين الماضي في وجود الحاضر، جدواه في إدراك الإنسان ملامح المستقبل.
الوطن ذاكرة.. وللذاكرة أصحابها يحملونها في الوجدان فتلازم كل زمان. تحلق معهم إلى رحيل المدى في اتساع الآفاق، وتطل من نوافذ السماء إلى الأماكن القديمة، تنشر إشعاعها بين دفات الكتب العتيقة حيث الأرواح والأجساد التي تركت آلاف البصمات في أرض الأجداد تحت ألق النجوم الساهرة التي ترقب الوقت.. والوقت زمن منبعث في الأوابد الصامدة في تاريخ امتد بأيدي العزم إلى مراصد الأمل. لتتجلى الأفعال أمام عيون من في الكون، بعد أن رحل ركض الأيام الذي لا ينتهي مع شموخ ما كان، ليقول للحاضر: نحن آباء ماض جليل باقون في وجد الأبناء الذين ترى عيونهم تعب الأجداد وقدراتهم.
ذاكرة الوطن لا تبخل بما تملكه. وإذا كانت هناك فئات تنكر العطاء، فهذا لأنها قد أصيبت (بالزهايمر) المبكر، فيتلاشى الآن أمامها ويضمحل الغد بمرضها.
تلك الذاكرة تهب العقول النيرة الصحيحة التي تلوِّح للحاضر بوميض نور يدفع المرء نحو التجريب بما يلائم آنيَّة الحالات في مجتمع يستوعب التغيير والتطوير لمواكبة العصر.
فثبات الماضي لا يعود إلا بوجه جديد لمستقبل جديد. فمن يعرف العمل الدؤوب يرَهُ في ما ترك الراحلون، والحاضر اليوم ينهل من ينابيع رواد التاريخ، لأن التاريخ جذور الكائنات وأصلها، فمن أطلق النار على ماضيه قتل حاضره ودفن فيه.
وعندما يكون الأحفاد أبناء حقيقيين للوطن، فالذاكرة لا تخونهم بل تبقى بصيرتهم نيرة وعيونهم مبصرة، ليروا ما خلّفه الأسلاف. فعليهم ألا ينكروا الفضل العميم في فصول الركض الزمني، فيعلنون الرفض أحياناً، والقبول أحياناً، ما بين علائق الذاكرة في المآسي والمسرات، حين تبقى الذاكرة في ثبات الإرث الحضاري وموجوداته تظل حياة قابلة للحياة، وإظهار ألوان جديدة على لوحات متعددة.
إن طبيعة التطور في العام والخاص تقود بنور الخلاص كل آت يسرع الخطا ويتئد، دون الانحراف عن صراط التقدم القادم مهما اصطدمت العجلات بطيات المصاعب على دروب متصاعدة دوماً.
فخط التطور الحلزوني المرتقي دائماً إلى الأعلى، تتراكم فيه الأفعال الناضجة حتى نصعد مدارج سلم التطور الدائم.
إن الصعود من ذاكرة تمضي إلى نظر يرى، وعقل يقود يجتاز سواد الحدود، رغم الوجع والألم ينبلج الفجر وينتشر صبح النهار، فنصوغ في محطات الضوء واقعاً جديداً نعبر به التاريخ إلى طريق الرقي الذي يجتاز كل ما كان.