شرف المهنة وأوجاعها

مثلما هنالك أنواع للصّبر، هناك أيضاً أنواع للمعارف.. منها ما يُحيي، ومنها ما يُميت. وكما يوجد أشجار ذات ثمار حلوة ومفيدة، يوجد بالمقابل أشجار يابسة، جذورها مرّة، وثمارها  إذا أثمرت  كطعم العلقم، حملها همّ، وصحبتها شؤم، ولا تصلح إلا وقوداً للأفران والمواقد.

إن الصّبر الذي مُزج بالثقافة والمعارف العميقة لابّد أن ينتج فلسفة وحكمة، تُعين حامليها وتحميهم من وجع الأيام والزمن المّر.

وبالمقابل هنالك من يصبر لكي يتعلم المعارف التي تخفض من قيمة من يحملها إذا أساء استخدامها. أليس بعض الأطباء يخفضون من قيمة وسمو قاماتهم؟ وبعض المهندسين يتعلّمون مهنة الهندسة لا لكي يبنوا الجسور إنما ليهدموها، ولا لكي يحفروا الآبار إنما ليردموها!

إن العبرة في الكلمة أن تكون في مكانها، مثل زرع القمح في موسمه، وأشجار اللوز في أوانها.

وكذلك من يتعلم مهنة فيصبح طبيباً أو مهندساً أو محامياً، فالحجر في مكانه إعمار، والأمطار مهمة إذا سقطت فوق أرض عطشى، لا فوق الصخور وأسفلت الشوارع.

إن المعارف العظيمة تسمو بأصحابها إذا عملوا فيها بصدق وشرف، وتكون خانقة لأصحابها إذا وُظّفت في غير مكانها، فهي تخفض من قيمة وكرامة من يمارسها، وتبقى عظيمة لأن السفاهة دائماً في الأشخاص لا في المهن.

إن لمعارفنا ظواهر وبواطن…. ونادراً ما ينطبق الوصف على الموصوف، والقامة على القيمة، والثوب على لابسه، والسيف على حامله، والوردة على الأصابع التي تحتضنها.

فقد يكون مجرى النهر عميقاً لكن مياهه ضحلة، والقمة مرتفعة، لكن الواصلين إليها سفلة. وطعم السّم حلو، إنما مفعوله في العروق قاتل مميت.

إن كل مهنة أو معرفة  مهما كانت عظيمة وقوية  تنقلب حماقة وسخفاً وضعفاً على أصحابها إذا استخدمت في غير مكانها.

( وهل تصبح الأفعى أقل سمّاً إذا وضعنا على رأسها تاجاً من ذهب؟).

التاج يبقى تاجاً من ذهب، والأفعى تبقى أفعى.. المهنة تاج، ولا ذنب لها أو حيلة إذا حصل عليها من هم دون مستوى الذهب والفضة.

ألا يمشي فوق الأرض أناس تظنهم أحياء؟

ألا يوجد تحت الثرى أناس قد يظنهم البعض أمواتاً؟

هنالك في الحياة من تعلّم وأفاد مَن حوله واستخدم ما حصل عليه فيما يرفع من قيمة البشر وكرامتهم، فبقي حياً بأعماله وإن كان جسده قد دُفن منذ مئات السنين.

و بالمقابل هنالك من تعلم مهناً شريفة ليستخدم علمه في أمورٍ ومواضيع بعيدةً عن النزاهة والشرف، فهم أموات وإن كانت أجسادهم لا تزال تتحرك بيننا.

( بذرّةِ شرف مال كثير قادر تجمعو… وبكثير المال ما بتجمع ذرة شرف..).

العدد 1140 - 22/01/2025