اللّجلجة واضطراب الكلام وأساليب معالجتها
تعتمد حياة الإنسان إلى حدٍّ كبير على اللّغة والكلام، فهما وسيلته للتعبير والتّواصل مع الآخرين، وقد أثبتت البحوث العلمية أنّ اللّغة تبدأُ عند الإنسان مع بكاء الطّفل ساعة ولادته، وقد وضّح الكثير من العلماء أن بكاء الطّفل وصياحه ليس سببه عدم ارتياح. بدايةً قد يكون نتيجة للجوع، ولكن مع مرور الأيّام يصبح بكاؤه أكثر تعبيراً وأكثر اعتماداً على الظّروف والمواقف الخارجية. ثُمّ يتطور بكاؤه بعد الشّهر الخامس أو السّادس إلى أصوات يُمكن أن نُسميها أصوات اللّعب، ويستخدمها لجذب الانتباه إليه والتّعبير عن نفسه وإحداث استجابة الغير نحوه. وقد وجد الاختصاصيون بالنّطق أنّه حتّى ثمانية أشهر يُحْدث الأطفال (في البيئات الشّرقية والبيئات الغربية)، أصواتاً متشابهة ومتماثلة إلى حدٍّ كبير. مما يدلُّ على أنّهم حتّى هذه المرحلة من عمرهم لا يعرفون أيّ لغة، بل يُصدرون أصواتاً /وإن كان لبعضها معنى/ فهي تُساعدهم على التّواصل مع بيئتهم. كما دلّت البحوث العلمية أنّ الطّفل في سن عشرة أشهر يُصبح قادراً على نطق كلمة واحدة ذات معنى، ثُمَّ تُصبح حصيلته اللّغوية من ثلاث إلى أربع كلمات عند نهاية السّنة الأولى.
وعندما يبلغ الطّفل الشهر الثامن عشر، يكون قد اكتسبَ نحو عشر إلى عشرين كلمة ذات معنى يتعامل بها مع الكبار. وعندما يبلغ السّنتين والنّصف يُصبح قادراً على تكوين جمل بسيطة، ويكون عادةً نطقه غير سليم، وقد يُعاني من وقت لآخر من صعوبة في الكلام، ولكن مع نمو القدرة الكلامية تختفي هذه الصّعوبات.
إذاً، الطّفل في نهاية السّنة الأولى من عمره تكون حصيلته اللّغوية تتراوح ما بين ثلاث وأربع كلمات، وفي سن الثّالثة يكون لديه نحو 800 كلمة، وعند سن الرابعة يستطيع الطّفل العادي أن يحكي جملة كاملة تتكون من 6 إلى 8 كلمات، وما إن يصل عمره إلى خمس سنوات حتّى تكون حصيلته اللّغوية تتراوح ما بين ألفين وثلاثة آلاف كلمة، مما يساعده على أن يكون حديثه مفهوماً.
أمّا الأطفال الّذين هم أقل قدرةً في تحصيلهم اللّغوي عن ذويهم من الأطفال، والّذين لا يستطعون التّحدّث بطلاقة، أو يعانون من الثأثأة واللّجلجة، والخمخمة، إلى غير ذلك من أمراض الكلام والنّطق، فيحتاجون إلى تدخل علاجي.
ولكن ما هي أعراض أمراض الكلام أو النّطق؟
لقد ألقى الدكتور ملاك جرجس، وهو اختصاصي بالأمراض النّفسيّة، بعض الضّوء على مشاكل النّطق عند الأطفال، منها التّأخر في الكلام، ضآلة المفردات المكتسبة، الحبسة الكلامية، وهي عدم القدرة على الكلام. وهي تتوقف على الظّروف والمواقف الاجتماعيّة والبيئية، وقد تتمثل الحبسة بفقدان القدرة على التّعبير سواء بالكلام أو بالكتابة.
أيضاً من عيوب النّطق، الثّأثأة أو اللّجلجة أو التهتهة كنتيجة للأثر الانفعالي، فيتلكأ في إخراج الكلمات، ومن أمراض الكلام الخمخمة ويكون نتيجة لتشوه خلقي في سقف الحلق، وأيضاً السّرعة في الكلام وإدغامه مما يجعله مختلطاً غير مفهوم للسامع، كما يعاني البعض فقداناً مفاجئاً للصوت، وفقدان القدرة على الكلام نتيجة الخوف من بعض المواقف الصّعبة.
يُرافق ضعف القدرة على الكلام عادةً حركات جسميّة، منشؤها نفسي، مثل تحريك اليدين أو الكتفين، الضغط على الأسنان لبعض الوقت، الضغط بالقدمين على الأرض، تحريك رموش العين بسرعة، تحريك الجفون. وقد يلجأ بعض الأطفال قبل إخراج الكلمات إلى إخراج اللّسان والميل بالرّأس يميناً أو يساراً، وقد يلجأ البعض الآخر إلى بلعِ لعابه باستمرار، في حركة عصبية.
ماهي الأسباب الّتي تؤدي إلى ضعف النّطق لدى الأطفال؟
أولاً- أسباب عضوية: قد يتعثر الطّفل في النّطق لما يعانيه من نقص أو اختلال الجهاز العصبي واضطراب الأعصاب المتحكمة في النّطق، مثل اختلال أربطة اللّسان، أو إصابة مراكز النّطق في المخ بتلف أو نزيف.. إلخ.
كما تُسبب عيوب جهاز النّطق (الفم، الأسنان، اللّسان، الشّفتان، الفكان) خللاً في مخرج الكلمات بشكلٍّ صحيح، خاصّةً عيوب الشّفة العليا وسقف الحلق، وهذه الحالات تحتاج إلى علاج عضوي وقد تحتاج إلى تدخل جراحي.
ويؤثر ضعف السّمع على نطق الطفل، إذ يجعله عاجزاً عن التقاط الأصوات الصّحيحة للحروف والألفاظ. وقد تزداد هذه المشكلة إن لم تُكتشف وتعالج بسن مبكرة.
ثانياً- أسباب نّفسية: منها الخجل، القلق، عدم شعور الطّفل بالأمان، الّذي يؤدي إلى الخوف، الصّدمات الانفعالية، الشّعور بالنّقص.
وهناك أسباب نفسية سببها الوالدن، كتدليل الطّفل بشكل مفرط، والاستجابة لطلباته دون أن يتكلّم، فيكتفي أن يشير أو يعبّر بحركة أو نصف كلمة أو كلمة مبتورة، كما المبالغة في حرمان الطّفل من الحنان والحبّ الأبوي يؤديان إلى النّتيجة نفسها فيتلعثم ويتلجلج في كلامه أو يحجم عنه لما يُعانيه من التّوتر والانفعال نتيجة الشّعور بعدم القبول النّفسي.
وقد ترجع عيوب النّطق إلى ظروف بيئية، كتعلّم عادات النّطق السّيئة، دون أن يكون الطّفل يُعاني من أيّ عيب بيولوجي، فهناك العديد من الأطفال ثبتوا بعد عامهم الثّاني على نطقهم الطفلي، الّذي يُسمّى لعدّة سنوات، لأنّ من حولهم دللوهم وشجعوهم على استخدام هذه الألفاظ الطّفولية. ومن هذه العيوب اللّفظية حذف مقطع أو حرف من كلمة ذات مقطعين أو ثلاثة، كذلك قد يخفق في تذكّر كلمة صعبة، وهي اسم لشيء ما فيعطيها اسماً من عنده ويشجعهم الأهل على ترديدها.
ثالثاً- أسباب أخرى مختلفة: قد يتأخر النّطق لدى الأطفال إذا وُجِدَوا في أسرة فيها تصدع بالعلاقة بين الأبوين. كما يلجأ الأطفال في الكثير من الأحيان إلى التّقليد: يبلغ سامر 15 عاماً، كان في طفولته لا يُعاني أيّ مشكلة في نطقه، ولكنه بدأ منذ أربع سنوات بالتهتهة، وعندما أرادت والدته معالجة المشكلة اكتشفت أنّه يقلد أستاذه في النّادي الرّياضيّ الّذي يتهته ويرفّ بعينيه.
ما هي الأساليب والطّرق المناسبة للعلاج؟
أولاً- يجب التّأكد أنّ الطّفل لا يعاني أيّة مشكلة عضوية.
ثانياً- العلاج النّفسي: وذلك لتقليل الأثر الانفعالي والتّوتر النّفسي عند الطّفل، ولتنمية شخصيته ووضع حد لخجله وشعوره بالنّقص، مع تدريبه على الحوار والأخذ والعطاء حتّى نقلل من ارتباكه وخجله وانزوائه في البيئة الّتي يعيش فيها.
إنّ نجاح العلاج النّفسي يعتمد على مدى تعاون الوالدين وتفهمهم للهدف، وقد أوضحت الاختصاصية روث سترانج أنّه في الكثير من الأحيان يكون العلاج النّفسي موجهاً للوالدين، لكي يحسّنوا من معاملتهم لطفلهم وذلك بدعمه للاعتماد على نفسه، وإعادة الاتزان الانفعالي له وللبيئة الّتي يعيش فيها لكي يشعر بالدّفء والأمان بعيداً عن التّدليل أو القسوة.
ولكن هل العلاج النّفسي وحده كاف لعلاج حالات اللجلجة؟! لقد أثبتت التّجارب أنّ العلاج النّفسي له أثر كبير في تخفيف أثر الحالات المرضية لدرجة كبيرة. ولكنه وحده لا يكفي، فيجب أن يرافقه علاج للنطق لكي يتمكن من إخراج الحروف بشكلها الصّحيح. إذ عليه التّدرب على الكلمات الإيقاعيّة، والتّعلّم الكلامي من جديد مع التّدرج: من الكلمات والمواقف السّهلة إلى المواقف الصّعبة، كما عليه تدريب جهاز السّمع عن طريق استخدام المسجلات الصّوتية، بعد ذلك يجري العمل على تقوية عضلات النّطق والجهاز الكلامي.
والمقصود بأهمية ملازمة العلاج النّفسي، علاج النّطق، هو أنّ مجرد علاج اللجلجة أو غيرها من العيوب اللّفظية، إنّما تُعالج الأعراض ولا تمس العوامل النّفسية الدّفينة، الّتي هي أساس المشكلة. لذلك كثيرون ممن يُعالجون النّطق دون استشارة اختصاصي نفسي ينتكسون من جديد بمجرد أن يُصابوا بصدمة انفعالية، وتسوء حالتهم أكثر من قبل.
وأخيراً يجب دمج الطّفل الّذي يُعاني مشكلة ما بالنّطق بأنشطة اجتماعيّة وجماعيّة، وذلك بالتّدريج حتّى يتدّرب على التّفاعل الاجتماعيّ وتنمو شخصيته بالتّدريج، فيتحرر من الخجل والانطواء على ذاته.
نصائح للآباء وللعاملين في حقل التّربية والتّعليم
إنّ المراكز الخاصّة بعلاج مشاكل النّطق غير متوفرة دائماً حتّى في البلاد الرّاقية والمتقدمة، ولذلك هذه بعض الطّرق الواجب اتباعها والّتي تُساعد كثيراً في العلاج:
1. مساعدة الطّفل على أن يثق بنفسه وبمقدراته لكي يتخلص من المشكلة.
2. مساعدة الطّفل على التّراخي، وذلك ببناء علاقة متينة معه، وذلك مفيد جداً لأنّه يقلل من تركيزه على نطقه ويقلل من توتره النّفسي والجسمي. وكلّما تدّرب الطّفل على التّراخي والتّحدّث ببطء ساعده ذلك على النّطق السّليم. كما ينصح الاختصاصيون بتشجيع الطّفل على إعداد ما يريد أن يقوله والتّفكير به قبل نطقه، لأنّه كُلّما وثق فيما يريد قوله أمكنه سرد ما يريد، دون تهتهة أو لجلجلة.
3. تفهّم الصّعوبات الّتي يُعانيها الطّفل نفسياً، سواء في البيت أو المدرسة، كالغيرة، أو اعتداء الأطفال الأكبر سناً له في المدرسة أو غير ذلك من الأسباب، والعمل على معالجتها وحمايته منها، لأنّها قد تكون سبباً مباشراً أو غير مباشر لما يُعانيه من مشاكل في النّطق أو أيّة مشاكل سلوكية أخرى، كالتّبول اللاإراديّ والحركات العصبية، أو الغضب، وهنا قد يستدعي العلاج تغيير الوسط المدرسي إلى مدرسة أُخرى، إن كان يُعاني صعوبة في التّأقلم في الوسط الّذي هو فيه.
4. عدم التّعجل في سلامة مخارج الحروف والمقاطع، وذلك لأنّ التّعجل والإصرار قد يزيد توتر الطّفل نفسياً وجسمياً ويجعله يقظاً لمشكلته، مما يؤدي إلى زيادة ارتباكه، ويزيد الحالة النّفسية الّتي يُعانيها، ويزيد من اضطرابه في النّطق. كما يجب مراعاة أنّ سلامة مخارج الحروف والمقاطع في نطق أيّ طفل يعتمد أساساً على درجة نضجه العقلي والجسمي ومدى قدرته على السّيطرة على عضلات الفم واللّسان.
5. عدم توجيه اللّوم أو السّخرية من الطفل الّذي يُعاني مشكلة في النّطق، سواء من الوالدين أو المعلّمين أو أصدقائه. للأسف هناك كثير من المعلّمين والأهل، يحاولون تصحيح أخطاء النّطق عند الأطفال بتوجيه اللّوم أو السّخرية من عيوبهم اللّفظية، مما يؤدي إلى فقدان الطّفل ثقته بنفسه والانطواء.
ريم طفلة عمرها ثلاث سنوات، والداها يعملان معظم النّهار خارج المنزل، والعلاقة العاطفية بينهما باردة، وكانا يتركانها برعاية مربية صارمة تميل إلى النّظام بشكل مبالغ فيه، فكانت تحرمها من حقوقها في حرية اللّعب والحركة وتفرض عليها الأوامر والتّعليمات القاسية أكثر مما تستطيع طفلة احتماله. لم تكن ريم تشتكي لوالديها من خوفها وعدم شعورها بالأمان، فأخذت تتلعثم وتتهته في حديثها، كما أصابها التّبول اللاإراديّ. ثم حدث أن تزوجت هذه المربية وانتقلت إلى مدينة أخرى، فحلّت محلها مربية أخرى كانت على نقيضها من حيث معاملتها لريم، فزالت عنها أعراض اللّجلجة والتهتهة، ولكن للأسف أيضاً اضطرت هذه المربية إلى السّفر أيضاً فتركت ريم، فانتكست حالتها من جديد ولكن بطريقة أسوأ من قبل.
ما العمل إذاً؟! على الوالدين أخذ دورهم بشكلٍّ جدي، وعدم ترك مسؤولية رعاية أطفالهم للمربيات، كما عليهم العمل على زيادة وعيهم بالأسلوب الصّحيح لتربية الأطفال، والانفتاح على تجارب الآباء الآخرين.