جدل سوري
قلنا له: يكفيك تدخيناً لأن التدخين يضر بالصحة ويسبب تصلب الشرايين وأمراض اللثة والرئة والسرطان..
أجاب: هل الأركيلة أحسن؟ إن (رأساً) واحداً من الأركيلة يعادل علبة دخان كاملة..
– (حبيبي شو دخل هاي بهديك.. نحنا عم نحكي عن أضرار التدخين ما عم نقول الأركيلة منيحة..).
لكن الأخ المتعصب لدخانه استمر في مهاجمة الأركيلة مؤكداً أنها كارثة وطنية وقومية، وتساهم في وهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي.. وأجبرنا على الإنصات لهجائيته المقذعة بحق الأركيلة والمؤركلين..حتى كدنا ننسى موضوع حديثنا الأساسي وهو التدخين وضرره عليه وعلى محيطه..
***
تقول متأففا وأنت عائدٌ من مشوار ماراتوني طويل في قلب دمشق: كل يوم أكتشف أن دمشق (أزحم) مدينة في التاريخ بفعل الحواجز وإغلاق معظم شوارعها أمام حركة السير، هي المدينة المزدحمة أصلاً، ثم جاءت الحرب لتضيف إلى الرز بصلاً.. وصار أي مشوار يكلفك نهاراً كاملاً من الانتظار وإطلاق الزفرات التي تمتص صوتك ويبقى صمتك عالياً..
فيسارع إلى القول إن موسكو تحتل المرتبة الأولى بين أكثر مدن العالم ازدحاماً مرورياً في العالم، وإن معدل انتظار المواطن الموسكوفي في وسائل المواصلات ثلاث ساعات يومياً، تليها إسطنبول، ثم ريودي جانيرو ووارسو وباليرمو و و و.. ويستطرد متعمقاً في المشكلة وأسبابها ونتائجها حتى يبدأ صبرك بالنفاد، وتخرج من ملكوت الصمت إلى برية الكلام صارخاً: أعلم، أعلم ان هناك مدناً مزدحمة وأناساً يكرهون حياتهم وهم يتنقلون إلى أعمالهم او مقاصدهم في شتى بقاع الأرض، لكن مشكلتنا هنا أن الشوارع الباقية على قيد المرور صارت تُعَدُّ على أصابع اليدين في مدينة كبيرة مثل دمشق صارت تضم، إضافة الى سكانها الأصليين قبل الحرب، نازحين من معظم أنحاء سورية المسكينة، كما وصفها في إحدى أجمل قصائده الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. وأنا أتحدث عن هذا الهم، ولا أريد أن أجري بحثاً وتقصياً عن الموضوع، ممكن فاصل منشط ونواصل؟ وتسلم رجليك للريح.
***
تقول له إن السلطات في الكوت ديفوار (ساحل العاج) مستبدة، ولا تعترف بحق الآخر في الاختلاف بالرأي، وسجونها مليئة بالناس المتهمين بالتعبير عن رأيهم المخالف لرأي الحكومة هناك، وأنه لا بد أن يستجيب القدر، وأن يحل محل هذه الجماعة التي تحكم هناك سلطةٍ أقرب إلى ناسها، تستمع إليهم وتتجاوب مع تطلعاتهم، فيقول غاضباً: انظروا إلى غوانتينامو، هذا السجن الكبير الذي يتناقض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية، والسجناء فيه محرومون من كل حقوقهم الإنسانية التي أقرتها الاتفاقيات الدولية، ثم يعرج على سجون باغرام وأبو غريب، ويستطرد متحدثاً عن سجون دولة إسرائيل العنصرية التوسعية وقمعها لتطلعات الشعب الفلسطيني البطل. ويتابع، والزبد يتطاير من أطراف فمه، جولته التفقدية إلى مشيخات الخليج المفتقدة لأبسط مبادىء الديمقراطية والدولة العصرية حيث لا برلمانات ولا أحزاب ولا دساتير.. نتثاءب ونحن نستمع إلى محاضرته القيمة، وننسى أين كنا، صحيح كنا في سيرة القمع الوحشي للمعارضين السلميين في (ساحل العاج)، ونقول: خيّو، يا حبيب، كل الأمثلة التي ذكرتها صحيحة ومؤلمة ويندى لها الجبين، والقضايا التي تطرقتَ إليها في حديثك الشيق قضايا عادلة ومحقة، لكنها لا تبرر للنظام الكوتديفواري قمعه واستبداده وإلغاءه لكل مظهر من مظاهر حرية التعبير.. وأتذكر قولاً مأثوراً لجارنا المهذب: شو جاب الطن للمرحبا؟!
***
ومن الروايات عن الجدل البيزنطي أنه بينما كان السلطان العثماني محمد الفاتح يحاصر بيزنطة عاصمة الإمبراطورية الرومانية (إسطنبول الحالية)، ويضربها بشتى صنوف الأسلحة (وبضمنها المحرمة دولياً آنذاك)، كان رهبان بيزنطة وعلماؤها مجتمعين في الكنيسة الكبيرة يتناقشون في جنس الملائكة وكم ملاكاً يمكن أن يقف على رأس دبوس، فسقطت عاصمتهم.
وها نحن ننتقل من جدال بلا نهاية إلى آخر بلا لون ولا طعم ولا رائحة، جدال سوري بامتياز..
وأكثر ما يقهرك ويجعلك تعض على يديك ورجليك، وتضرب رأسك بأقرب حائط، أن مجادلك يعرف تماماً أنه يضلّل ويميّع موضوع الحكي، وهو يظن نفسه أنه يسجل نصراً مؤزراً عليك بتطفيشك من الحوار وجعلك تكفر بوطن يجمعك مع نُخَب كهذه.. أقول (نُخَب)، وأستعيذ بالله وأستغفره لي ولكم..