الماركسية بين لينين وغرامشي
هل كان غرامشي مخلصاً لأفكار لينين؟ ترى ما هو الشيء المميز في أفكار غرامشي؟ وهل لينينية غرامشي مفيدة للاشتراكيين اليوم؟ يجاوبنا كريس والش في هذه المقالة عن كل هذه الأسئلة وأكثر:
إن إرث أنطونيو غرامشي من أكثر القضايا خلافية في التراث الماركسي. وقد زعمت مدارس فكرية كثيرة انتماءها لأفكار غرامشي، بعضها ينتمي إلى الماركسية، وبعضها الآخر من خارجها. وقلما نجد علماً من العلوم الاجتماعية لم يدمج المفاهيم الرئيسية المميزة لفكر غرامشي في أدبياته. غالباً ما كان ينظر إلى هذا الإيطالي بصفته ماركسياً (مقبولاً)، ولم يلقِ أحد بالاً إلى أنه ربما يكون مفكراً وناشطاً سياسياً لا يقل تميزاً عن لينين. وفي تاريخ الماركسية الغربية، ربما يكون الجدل الرئيسي طوال الخمسين عاماً الأخيرة حول ما إذا كانت سياسات غرامشي استمراراً للتراث اللينيني، أم خرقاً له وخروجاً عليه.
كانت المهمة الرئيسية لغرامشي أثناء كتابته (كراسات السجن) هي البدء بوضع استراتيجية ثورية جديدة للاشتراكيين في ظل الرأسمالية الغربية المتقدمة، فالأوضاع تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي كانت في روسيا القيصرية. ومجرد الاشتباك مع موضوع كهذا كافٍ، لدى البعض، للتمييز بين أفكار كل من لينين وغرامشي النظرية. ولكن هذا استنتاج ضحل للغاية، فما من أحدٍ منذ بداية العشرينيات كان على دراية بضرورة وجود استراتيجية ثورية مختلفة خاصة بالغرب مثلما كان لينين.
في السبعينيات، ظهرت موجة نظرية جديدة اعتمدت اعتماداً كبيراً على قراءة خاطئة لأفكار غرامشي من داخل الأحزاب الشيوعية في أوربا. هذا التنوع الفضفاض في وجهات النظر أصبح يُعرف بشكل جمعي باسم الشيوعية الأوربية، التي تمحورت حول فكرة أن مفهوم (حرب المواقع) لغرامشي هو إقرار لسلك الطريق الإصلاحي للاشتراكية. وبالتالي فإن الأحزاب الشيوعية التي التزمت بوجهة النظر الجديدة تلك، بدأت في النظر إلى العمل الانتخابي باعتباره أولية سياسية، وسرعان ما بدؤوا يتخلون عن قدر كبير من التراث اللينيني.
في بريطانيا، دافعت دورية (الماركسية اليوم) عن الشيوعية الأوربية، وكان يترأس تحريرها كتّاب مثل مارتن جاك وستيوارت هول، وأشخاص مثلهما كان لديهم من الأسباب ما يكفي للفصل ما بين غرامشي والتراث اللينيني. لقد أرادوا أن يميزوا نظرياً وبوضوح شديد بينهم وبين (عبادة لينين) في الاتحاد السوفيتي الستاليني. لقد كانوا متشائمين للغاية إثر عقود من هزائم متتالية مُنيِ بها اليسار الثوري، وهدفوا إلى صياغة استراتيجية اشتراكية جديدة يمكنها التخلص من الثوابت القديمة للماركسية اللينينية الستالينينية الفاشلة، مثل (ديكياتورية البروليتاريا). وظنوا أن غرامشي هو مبررهم للقيام بمراجعة جذرية كتلك. كما أنهم تعمدوا النأي بأفكاره بعيداً عن أفكار لينين، هؤلاء كانوا، بالطبع، رجالاً ذوي دوافع سياسية. ولم تكن استنتاجاتهم الخاصة موضوعوية أومحايدة، ولا دقيقة علمياً، بل أمليت وفقاً لبرنامجهم الخاص بإعادة توجيه وتجديد جناح اليسار الراديكالي، في وقت أزمة اليسار العميقة.
من الضروري هنا توضيح بعض النقاط الحاسمة، التي دائماً ما يتم تجاهلها رغم أهميتها:
أولاً، مفهوم (الهيمنة) الذي أصبح مرادفاً لأفكار غرامشي، لم يكن له بالأساس، لكنه أخذه عن لينين. كما أنه كان واسع الاستخدام عند كبار منظري الأممية الثانية والثالثة على حدٍ سواء. والحقيقة أن استخدام غرامشي لهذا المفهوم لم يكن يشكل تحريفاً عن، أو مناقضاً لاستخدامه في روسيا. ولكن حقيقة الأمر أنه كان استمراراً وتطويراً للمفهوم نفسه.
ثانياً، رغم أنه كان شائعاً لعقود توصيف مفهموم (الهيمنة) لغرامشي على أنه استراتيجية بديلة لمفهوم (ديكتاتورية البروليتاريا) القديم. لكن، لم يكن هذا مقصد غرامشي أبداً. الواقع أن المفهومين كانا، بالنسبة للعقلية الإيطالية، مكملان أحدهما للآخر. وفي الحقيقة، إن (كراسات السجن) لغرامشي كانت محاولة لمواصلة العمل بالنهج اللينيني بعد وفاته.
لينين والغرب
كما سبق أن ذكرنا، كان لينين متيقناً من حاجة الغرب إلى استراتيجية ثورية مختلفة. وفي عام ،1921 بيّن خصيصاً للشيوعيين الروس أهمية وجود استراتجية خاصة بالعمال الغربيين، تلائم أوضاعهم وظروفهم الخاصة. وتأسف تحديداً على أن البرنامج المنصوص عليه في المؤتمر الثالث، كان يصعب أن يكون مفهوماً بالنسبة للعقلية غير الروسية، إذ قال:
(اتخذ المؤتمر الثالث، عام ،1921 قراراً بشأن الهيكل التنظيمي للأحزاب الشيوعية وأساليبها ومحتوى أنشطتها. لقد كان قراراً ممتازاً، لكنه كان روسياً للغاية. وهذا يعني: أولاً أن كل مايتعلق بهذا القرار كان مستنداً إلى طبيعة الأوضاع في روسيا. وهو تحديداً مكمن تميزه. ولكن هنا أيضاً كان مكمن النقص. وأقول إن في القرار نقيصة لأنني واثق من أنه يصعب على الأجانب قراءته.
ثانياً، حتى وإن قرؤوه، فلن يستطيعوا فهمه، لأنه روسي ومغرق في المحلية. بالطبع، ليس فقط لأنه كتب باللغة الروسية – فقد ترجم بإتقان إلى كل اللغات – ولكن لأنه مشبع جداً بالروح الروسية.
ثالثاً: حتى وإن حدث بشكل اسثنائي وتمكن أحد الأجانب من فهمه، فلن يتمكن من تطبيقه على أرض الواقع).
(لينين: خمس سنوات من الثورة الروسية وآفاق الثورة العالمية: تقرير المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية. معركة لينين الأخيرة: 1922-،1923 ص 111).
لقد كانت قوة هذا القرار تكمن في تفاصيله، في خصوصيته وقدرته على التركيز على تفصيلات المسائل التنظيمية. ولكن نقطة ضعفه كانت تكمن في استثنائية الظروف الاجتماعية والاقتصادية الروسية، وبالتالي اغترابها بشكل حاد عن العامل الغربي. والأسوأ في واقع الأمر، أنه حتى بعد دراسة متخصصة للظروف الروسية التي من شأنها المساعدة في فهم دور المنظمة الثورية وممارسة الشيوعيين الروس، أقول: ربما تصبح هذه المعرفة قيداً للثورية الغربية في حال اتبعت بشكل دوغمائي، خاصة أن طريقهم للثورة العمالية يختلف جذرياً عن طريق البلاشفة. مما حدا بلينين للاعتذار قائلاً: (نحن لم نتعلم كيفية تقديم خبرتنا الروسية إلى الأجانب). ومن أجل تدارك هذا السهو من المجلس السابق، أكد لأبناء وطنه قائلاً: (علينا نحن الروس أيضاً إيجاد السبل والوسائل لشرح مبادئ هذا القرار للأجانب. وما لم نقم بهذا، سيكون من المستحيل تماماً عليهم تطبيقه وممارسته).
كانت المهمة الرئيسية للأممية الشيوعية في هذه المرحلة هي (ترجمة) التجربة الروسية إلى العديد من اللهجات العامية الدارجة بين العمال الأوربيين. لكن، لا توجد دولتان متطابقتان في الظروف نفسها، وتحديداً الحالة الروسية كانت بعيدة كل البعد عن الأوضاع في أوربا في ظل رأسمالية أكثر تقدماً.
حرب المواقع وحرب المناورات
واحدة من أعظم إسهامات غرامشي في الماركسية الثورية، هي صياغته للاستراتيجية المزدوجة المعروفة بإسم حرب المناورات وحرب المواقع. سابقاً، في عام 1917 حين طبقها لينين والبلاشفة، كانت قد صممت كاستراتيجية مناسبة للاشتراكيين داخل مجتمعات لا تزال الرأسمالية فيها متخلفة وغير متطورة. لقد انطوت على شكل متقدم من أشكال التمرد على الدولة، وهو أمر ممكن فقط عندما تحافظ الطبقة الحاكمة داخل المجتمع على تفوقها على الطبقات التابعة باستخدام القوة المطلقة، مع قبول جماهيري ضئيل، أو ربما معدوم، لهذه السيطرة. وفي هذه الحالة، ترفض الطبقات التابعة أن تقودهم الطبقة البرجوازية، لكنهم يجبرون على الرضوخ والإذعان بالاستخدام المفرط للعنف من خلال أجهزة الدولة القمعية، مثل (تشكيلات خاصة من الرجال المسلحين، السجون، وما إلى ذلك) مثلما أوضح لينين في كتابه (الدولة والثورة).
من ناحية أخرى، فإن حرب المواقع، هي استراتيجية طويلة الأمد، وتحتاج إلى مزيد من الصبر. فهي ليست هجوماً على معاقل السلطة، لكنها فترة طويلة من البناء، وصولاً إلى تلك اللحظة التي تصبح فيها التحالفات الطبقية متقدمة وتسعى لزعامة الطبقات التابعة. وقد شرح غرامشي الظروف المختلفة التي تتطلب استراتيجية خاصة لكل ظرف على حدة:
(في الشرق، كانت الدولة هي كل شيء، وكان المجتمع المدني هلامياً وبدائياً. بينما في الغرب، هناك علاقة صحيحة وقوية بين الدولة والمجتمع المدني، وفي الأوقات التي تترنح فيها الدولة، سرعان ما يُكشف عن هيكل قوي للمجتمع المدني. فالدولة في الغرب ما هي إلا حصن أمامي تصطف خلفه سلسلة من الحصون القوية والمناطق المنيعة. وغني عن القول، أن بناء الدولة يختلف من دولة إلى أخرى، وهذا تحديداً هو السبب وراء الحاجة إلى استكشاف وطني دقيق. (أنطونيو غرامشي، كراسات السجن، المجلد الثالث، ص169).
وفي هذا المقطع تحديداً يعرّف غرامشي الدولة بالقلعة التي تحيط بالمجتمع المدني وتحميه. وفي مواضع أخرى كان يعرض العكس، أي أن المجتمع المدني هو الذي يحمي الدولة. وفي نهاية المطاف، لا توجد حقيقة مطلقة حول الصياغة المتعلقة بالدول الرأسمالية المتقدمة، لأنه كما ذكرنا (تكوين الدولة يختلف من دولة إلى أخرى). لكن النقطة الرئيسية التي يجب علينا ملاحظتها هي أن هناك في الغرب علاقةً أكثر نضجاً بين الدولة والمجتمع المدني. فالدولة في المجتمع الغربي الرأسمالي المتقدم، تضمن استمرار هيمنة الطبقة الرأسمالية من خلال وسائل للحكم أكثر تعقيداً من القهر الغاشم الذي تلجأ إليه الدول الشرقية المتخلفة. فهناك ينتشر بفاعلية كبيرة مزيج من الإكراه والموافقة. وكلما تقدمت الدول الرأسمالية أكثر، قلّ لجوءُها لاستخدام القوة أكثر فأكثر، واعتمدت اعتماداً متزايداً على كسب الرضا الجماهيري من أجل الحفاظ على الوضع الهرمي الراهن. ومن المهم أن نلاحظ في هذه النقطة أن الجماهير على كل الأحوال قد خدعت بمثل هذه التسوية. إن أيديولوجية الطبقة الحاكمة تتعمد استهداف احتياجات محددة، ورغبات أو مخاوف منتشرة بالفعل بين الطبقات التابعة. تلك المستهدفات تتحدد وفقاً لقضايا مختلفة في مراحل تاريخية مختلفة وتمليها ظروف معينة وفقاً لكل مجتمع على حدة. فقد تكون أي شيء مثل: استعادة القانون والنظام (الأمن الداخلي)، والأمن القومي، والمخاوف حول حجم جهاز الدولة، والغضب من تفشي (ثقافة المنفعة)، والمطالبة بالعدالة. على سبيل المثال، انطوى البرنامج السياسي ل مارغريت تاتشر على مثل كل هذه الأمور. وأثارت تاتشر وحلفاؤها كل هذه المخاوف، واعتمدوا بالأساس على دور وسائل الإعلام في الترويج لهم بإخلاص شديد، مع تخصيص وقت قصير لصوت المعارضة، أو ربما ينعدم تماماً.
عندما يصبح فكر الطبقة الحاكمة مقبولاً على نطاق واسع إلى درجة تجعل الطبقات المضطهَدة على استعداد للمشاركة فيه، حين تنعدم البدائل، أو ربما تكون موجودة بالفعل لكنها عاجزة عن اجتذاب الجماهير، ذلك هو الوقت الذي يصبح فيه فكر الطبقة الحاكمة، كما أطلق عليه غرامشي، أمراً منطقياً سليماً. حينذاك يصبح التحول الفكري في المجتمع مستقراً جداً، حتى إن الإدارات السياسية اللاحقة تضطر لمواصلته وتأييده، وعندئذ يصبح المشروع السياسي مهيمناً حقاً. هذا تحديداً ما تحقق بوساطة مشروع تاتشر الجذري، حتى إن حكومة حزب العمال اللاحقة لفترة تاتشر، احتضنت تماماً، وواصلت مشروعها نحو الليبرالية الجديدة.
ترجمة: ضي رحمي
نقلاً عن (مركز دراسات وأبحاث الماركسية واليسار)