التربية في مجتمع متعدد

كيف نُربي أولادنا على احترام الآخر وتقديره؟! وما هي الفلسفة التي يجب أن تُتبع في سبيل تعليم الجيل الناشئ طرق إدارة الحوار ومبادئ تبادل الحديث الصحيحة؟ سؤالان يجب أن يُجاب عليهما حتى نتمكن من البدء بالعمل على إعادة اللُحمة لمجتمعنا الذي بدأت عُراه تتحلل إلى عوامله الأولية بسبب الأزمة التي أرخت بظلالها على سورية في العامين المنصرمين.

لحل هذه الإشكالية تقترح العلوم الإنسانية مبدأ التربية المجتمعية، الذي هو حصيلة الخبرات التي يكتسبها والمبادئ والقيم التي يعتنقها الفرد الذي يعيش في زمان ومكان محدّدين. وهي من هذا المنطلق تتم بطريقة غير مباشرة، طبيعية إلى حد كبير، وتشكل الحجر الأساس في التكوين العقلي والنفسي للإنسان. فالتربية المجتمعية تستمد قوّتها من المجتمع الّذي تعمل فيه، بهدف تحويل الفرد من مواطن بالقوة إلى مواطن بالفعل يفهم ويدرك دوره الاجتماعي ومسؤولياته ضمن الجماعة الّتي ينتمي إليها، وهي تحدث بطريقة مباشرة ضمن الأسرة والحيّ الّذي يعيش فيه، وهذا النّوع من التّربية هو وسيلة لاستمرار الثّقافة مهما كان الطّابع العام لهذه الثّقافة ودرجة تطورها. فالثّقافة لا تولدُ مع الأفراد ولا تنتقل إليهم بيولوجياً، وإنّما يكتسبونها بالتّعلم والتّدريب والممارسة في دوائر الحياة الاجتماعيّة الّتي يعيشون فيها منذ مولدهم.

والخطوة الأولى تتمثل بِإعادة بناء التّنظيم الاجتماعيّ. فعلينا أولاً إعادة تنظيم الوحدات الاجتماعيّة التي تقوم على خدمة الأفراد ضمن المجتمع الواحد، ليكون هدفها مجابهة المشكلات التي تعترض المجتمع الذي ينتسبون إليه، ووضع المخططات والمقترحات لبنائه وتطويره ضمن منهج قيمي واضح وثابت. ومن تلك الوحدات:

أ. المؤسسات العامة الّتي يجب أن يكون لها قوانينها وقيمها الثّابتة الخاصّة بها؛ كالأسرة (أحد أهم المؤسسات المجتمعية) والمدارس ودور العبادة والإدارات الحكومية الأخرى.

ب. الجماعات الّتي لها نظام خاصّ، ومنها:

1- المنظمات الخاصّة بالأعمال والمهن (كغرفة التّجارة، ورابطة أصحاب المصانع.. إلخ).

2-  الجماعات الخيرية.

3- النّقابات بأنواعها.

4- النّوادي الرّياضيّة.

 ج. الهيئات: وهي جماعات لها نظام خاصّ أُنشئت لتأدية خدمات مُعيّنة ومحدّدة، وقد تكون خاصّة أو عامّة مثل (الهيئة السّورية لتنمية الأسرة)، (مراكز الإرشاد الزّراعي).. إلخ.

 د. مشروعات خاصّة: وهي منظمات أنشئت للكسب، قد تكون مشروعاً واحداً أو عدّة مشاريع يديرها فردٌ أو مجموعة من الأفراد، أو أسلوب الإدارة فيها تعاوني أو نقابي.

يبقى السّؤال: ما هي الشروط الواجب توفّرها في الوحدات السّابقة لكي نبني مجتمعاً متماسكاً؟

* الحفاظ على العادات والتقاليد والقيم وتوارثها عبر الأجيال وتكيّفها حسب التّغيّرات الّتي تحدث. مثال على ذلك، كان معروفاً سابقاً أن لكلّ حارة زعيماً ومجلساً محلياً يضم وجهاء الحارة، الّذين كانوا يتمتعون بمكارم الأخلاق. وكان حلم الأطفال أن يكبروا ويكونوا أعضاء في مجلس الحارة ويتسابقون للوصول إلى زعامة الحارة، الأمر الّذي كان يدفعهم للتمثل بالخلق الجيّد والسّمعة الحسنة، مما كان يعزز لديهم روح الانتماء إلى الحيّ أو الحارة الّتي يقطنون فيها. وفي المقابل العمل على الحدّ من العادات والتقاليد التي تنظر إلى الآخر نظرة دونية. ومثال على ذلك: الأهازيج التي يرددها الأطفال في المجتمع الدمشقي أيام الأعياد (عيشة ومنيمشة) و(علي ما مات خلف بنات)، إذ تعدّ هذه الأهازيج نوعاً من الحرب الباردة بين مذاهب المجتمع الدمشقي.

* أن يقوى الوعي بالجماعة والانفتاح على المجتمعات والثّقافات الأخرى عن طريق الاحتكاك السّليم بهم، دون إلغاء لوجود الجماعة واحترام فكر وعادات الجماعة الأخرى.

* أن يكون للجماعة الواحدة نظام وقانون محترم يضمن حقوق الأفراد وسلامتهم.

نلاحظ مما سبق أنّ التّربية ضرورة للفرد والمجتمع، وذلك لأهميتها الاستراتيجية القومية لكلّ دول العالم، لذلك لا يمكن لأيّ حكومة أن تترك ميدان التّربية لتتولاه الجهود المحليّة دون توجيه قومي منها، فالعنصر البشري هو أهم مورد تمتلكه الدولة، فمن النّاحية الاقتصادية نجد أنّها استثمار قومي للموارد البشرية، إذ تلعب دوراً هاماً جداً في تنشيط المجتمع الصّناعي بواسطة المؤسسات الّتي تعمل على تطوير آلية العمل والإنتاج. كما نجد أنّ التّربية ضرورية أيضاً للتنمية البشرية للأفراد بواسطة العلاقات الاجتماعيّة الّتي تفرضها عليهم مكانتهم. فمثلاً لعب دور المواطنة الصّالحة والمسؤولة القادرة على القيام بواجباتها الاجتماعيّة والقومية، وكذلك لعب دور الأمّ والأب الصّالحين، بحاجة إلى درجة كبيرة من النّضج التّربوي. وقد سمعنا من المعلمين والمربين منذ الصّغر بأنّه كُلّما تعلّم الإنسان زاد شعوره بالحرية. فالحرية تحرّر الإنسان من قيود الجهل والأفكار البالية والمعتقدات الخاطئة الّتي تؤخر تطور الجماعة ونموها، وهنا يبرز دور التّربية في بناء شخصية الإنسان القادر على مشاركة الآخرين مشاركة صحيحة، الأمر الّذي يدفع إلى توحيد الاتجاهات الدّينية والفكرية والثّقافية بين جميع أفراد المجتمع، وأخيراً هي ضرورية لبناء الدّولة العصرية، أيّ الدّولة الّتي تعيش على أساس من التّقدم العلمي، ولها قانون أخلاقي ثابت، ويتمتع أفرادها بالحياة الحرّة الكريمة القائمة على أساس العدالة الاجتماعيّة، وتوفر أدنى وسائل الرّفاهية لجميع أفرادها.

ولذلك علينا الاهتمام بالتّنشئة الاجتماعيّة الصّحيحة؛ وهي العملية الّتي يتعلّم بواسطتها الإنسان طرق العيش في المجتمع أو الجماعة والوحدة الّتي ينتسب إليها. وهذه العملية تتطلب تدريب الأشخاص على التّوفيق بين حاجاتهم الشّخصية ورغباتهم الخاصّة وبين مطالب الآخرين واهتماماتهم، الّتي يجب أن تتمثل بالبناء الثّقافي السّليم للأفراد. كما تتصف الطّريقة الّتي يكتسب الفرد بموجبها الحساسية للمثيرات الاجتماعيّة، كالضغوط النّاتجة عن حياة الجماعة والتزاماتها وكيفية التّعامل والتّفاهم مع الآخرين. إنّها عملية نموّ الفرد وتطوره، فيتحوّل من تمركزه حول الذّات إلى شخص ناضج يدرك معنى المسؤولية الجماعية. والهدف الأساسي من هذه التّنشئة هو تحقيق الفرد لذاته ضمن الجماعة الّتي ينتسب إليها أو في المجتمع الّذي يعيش فيه، فالتّنشئة تسهم في تكوين الإنسان فكرته الخاصّة عن ذاته بجوانبها الجسمية والعقلية والوجدانية والاجتماعيّة والأخلاقية وغيرها من جوانب الشّخصية. ولهذه التّنشئة ناحية إيجابية عندما يعرف الفرد حقيقة إمكاناته ويتمتع بقدر معقول من الثّبات والاستقرار ليكون متقبلاً لها ويسعى إلى تطويرها تطويراً صحيحاً وإيجابياً.

العدد 1140 - 22/01/2025