المسألة اليهودية… تفسير ماركسي

لم تبدأ كراهية اليهود مع المسيحية، فقد كانت موجودة قبل ذلك. فالكراهية ترجع في الأساس إلى معارضة مجتمع الاقتصاد الطبيعي للتجارة، بمعنى أن منبع الكراهية طبقي وليس دينياً. لم تكن كراهية اليهود في أوربا في القرون العشرة الأولى من عمر المسيحية تهدف إلى القضاء عليهم. فبينما كانت المسيحية الرسمية تضطهد عبدة الأصنام دون رحمة، كان وضع اليهود يتحسن باستمرار حتى القرن الثاني عشر.

استمر النظام الإقطاعي في أوربا الغربية حتى القرن الحادي عشر، بينما استمر في أوربا الشرقية حتى أواخر القرن الثامن عشر. خلال تلك الفترة تمتع اليهود بحماية الملوك والنبلاء، وكانت فترة رخاء اقتصادي للتجار اليهود الذين شكلوا طبقة اجتماعية منفصلة ومختلفة عن طبقة الإقطاعيين والفلاحين الأقنان. وحرصت تلك الطبقة على الحفاظ على المكانة الاقتصادية المتميزة، عن طريق رفض الاندماج، وعن طريق المحافظة على دينهم وعلى بعض خصائصهم الثقافية المختلفة، ذلك أن الاندماج في المجتمع المحيط كان يعني التحول إلى المسيحية، التي غُلّفت بأيديولوجية تحرم التجارة وتنظر إليها بازدراء، مما يعني نزول التاجر اليهودي إلى مرتبة قنّ الأرض.

أوضح ليون دلالة اختفاء اللغة العبرية مبكراً كلغة حية، فقد تبنت الجماعات اليهودية لغات الشعوب التي تعيش في أواسطها، وأخذ هذا التبني شكل لهجات جديدة، مثل (عبرية-عربية)، (عبرية-أسبانية)، (عبرية-ألمانية) وهي التي تعرف بالإديشية. عبّر هذا التكيف اللغوي عن اتجاهين متعارضين في أوساط الجماعات اليهودية، اتجاه نحو الاندماج في المجتمع المحيط، واتجاه انعزالي نابع من الواقع الاجتماعي الاقتصادي المتميز.

 

قبل دخول الإسلام شمال أفريقيا كان عدد كبير من اليهود فيها يمارس الزراعة، وقد اندمج معظم هؤلاء بالسكان المحليين، ذلك أن الزراعة ساعدت على انتشار اليهود في تلك الأنحاء، وتوقف هؤلاء اليهود عن تشكيل طبقة خاصة بهم (غريبة ومعزولة)، مما أدى بعد عدة أجيال إلى الاندماج الكامل مع بقية السكان. هذه الحقيقة جعلت ليون يصيغ قانون سماه قانون الاندماج Assimilation Law: (عندما يتوقف اليهود عن تكوين طبقة سيفقدون ، سواء بسرعة أو ببطء، خصائصهم العرقية، والدينية، واللغوية، ويندمجون في المجتمع).

عهد المرابي اليهودي

تحت هذا العنوان، يتحدث الفصل الثالث من الكتاب عن الفترة الممتدة من القرن الحادي العاشر إلى القرن التاسع عشر. إذ دخلت أوربا الغربية منذ بداية القرن الحادي عشر طوراً جديداً من التطور الاقتصادي السريع والمكثف بظهور برجوازية محلية تجارية وصناعية، وقد دفعت التجارة، بشكل تدريجي، الإنتاج المحلي إلى الأمام، وبدأ الإنتاج للتبادل يحل تدريجياً محل إنتاج قيم استعمالية. وظهر الصوف الإنجليزي، وجوخ الفلاندر، وملح البندقية، والنحاس الديننتي، وغيرها..

أدى تراكم الثروات السريع إلى نمو مطرد لطبقة تجارية محلية بدأت تنافس التجار اليهود، الذين ظلت التجارة طوال القرون العشرة الماضية في أيديهم، في الأغلب. هذا التنافس سحق مركز اليهود التجاري، إذ حل تجار مسيحيون محل التجار اليهود. ورافق هذا اضطهاد دموي ضد اليهود، وقد وفرت الحروب الصليبية – التي تعبر عن إرادة الطبقة التجارية الجديدة في شق طريقها إلى الشرق – الفرصة للقيام باضطهاد اليهود وبمذابح ضدهم. وبدأ الدور التجاري لليهود ينهار، لكن ظل عدد من اليهود يمتلك من المال ما يكفي لكي يقرض السادة الإقطاعيين والنبلاء والملوك. مما أدى إلى انتقال عدد من ممتلكات النبلاء إلى أيدي اليهود، بفضل معدل الربا المرتفع الذي كان يتراوح بين 43 و86%.

فإذا كانت كلمة (يهودي) مرادفة لكلمة (تاجر) طوال القرون العشرة الأولى للميلاد، ففي أوربا الغربية، وبشكل تدريجي منذ القرن الحادي عشر، بدأت كلمة (يهودي) تقترن بكلمة (مرابي). كان المرابي يقرض الإقطاعيين والملوك لرفاهيتهم ولمصاريف الحرب، ويقرض المزارعين والحرفيين ليتمكنوا من تسديد الرسوم المستحقة منهم. ومن المعروف أن الأموال التي يُقرضها المرابي لا تخلق أي قيمة فائضة، بل تمكّن المرابي من الاستيلاء على جزء من القيمة الفائضة. أدى هذا إلى اتساع كراهية اليهود بين طبقات عدة (النبلاء الإقطاعيين، والفلاحين، والحرفيين).

هكذا اختفى اليهود من المجال التجاري وتحولوا إلى مرابين، زبائنهم، في الأغلب، هم الملوك والنبلاء. ولكن دخول الاقتصاد التبادلي إلى الزراعة وفر الكثير من الأموال في أيدي النبلاء مما مكنهم من التخلص من سيطرة المرابين اليهود. هكذا ضاقت سبل العيش بكثير من أعضاء الجماعات اليهودية، وأخذت تتنقل من بلد إلى بلد، واندمج عدد آخر منها في البرجوازية المحلية، وفي بعض المدن الإيطالية والألمانية تحول بعض اليهود إلى مرابين صغار للطبقات الشعبية يستغلون الناس مما جعلهم في كثير من الأحيان عرضة للانتفاضات الشعبية.

ففي عام 1290 طرد جميع اليهود من إنجلترا وصودرت ممتلكاتهم، وكان اليهود في فرنسا المجزأة بين عدد من الأمراء والسادة في القرن الثالث عشر عرضةً لابتزاز كبير من قبل هؤلاء الأمراء، إذ كانت تصدر، بشكل متكرر، أحكام جماعية ضد مجموعات من اليهود بالطرد، ثم يسمح لهم بالبقاء مقابل دفع رسوم، بخلاف الضرائب. وقد طُرد اليهود من فرنسا في نهاية القرن الرابع عشر، ومن أسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر. كل هذا دفع عدداً كبيراً من اليهود إلى الهجرة إلى أوربا الشرقية، التي استمر فيها النظام الإقطاعي حتى نهاية القرن الثامن عشر، مما مكن هؤلاء اليهود من ممارسة وظائفهم التقليدية (التجارة والربا).

لقد كان اليهود في أوربا يشكلون جماعات لها وظائف اقتصادية محددة، وبالتالي مصالح طبقية محددة. لذا حرصت الجماعات اليهودية على عدم الاختلاط بباقي الطبقات الشعبية وعدم الاندماج في المجتمع، حفاظاً على المصالح الطبقية المميزة. لذلك كان الحفاظ على بعض الخصائص الدينية والعرقية واللغوية تعبيراً عن الرغبة في عدم الاندماج أو عدم الذوبان في المجتمع المحيط. وبالرغم من هذا شكل اليهود، في الحقيقة، مزيجاً عرقياً متنوعا جداً، وقد اختلطوا بعناصر عرقية غير سامية متعددة، ففي إنجلترا جلب احتكار اليهود للربا ثروات ضخمة لهم مما دفع بعض المسيحيين للتهود من أجل المساهمة في هذا النشاط المربح. هكذا يتضح أن الجماعات اليهودية نتاج لعمليات من الانتقاء والانتخاب الاجتماعي.

(يتبع)

 

عن «الحوار المتمدن»

العدد 1140 - 22/01/2025