في الذكرى الـ 25 لأحداث تيان آن مين
قبل خمسة وعشرين عاماً انتابت كل وسيلة إعلامية أمريكية، إلى جانب الرئيس بوش آنذاك، والكونغرس الأمريكي، هستيريا مسعورة كاملة ضد الحكومة الصينية بسبب ما وصف بمجزرة بدم بارد لآلاف الطلاب اللاعنفيين (المؤيدين للديمقراطية) الذين كانوا قد احتلوا ساحة تيان آن مين منذ سبعة أسابيع.
كانت الهستيريا الناشئة حول (مجزرة) ساحة تيان آن مين مبنية على قصة خيالية حول ما حدث حقاً، عندما أخلت الحكومة الصينية أخيراً الساحة من المحتجين في 4 حزيران 1989.
كانت أبلسة الصين فعالة جداً، وأقرت كل قطاعات المجتمع الأمريكي تقريباً، ومن ضمنها معظم (اليسار)، العرض الإمبريالي لما حدث.
في ذلك الوقت رُفضت الرواية الرسمية الصينية للأحداث، ووصفت بالبروباغندا الزائفة. ذكرت الصين أن نحو 300 شخص قُتلوا في الاشتباكات في 4 حزيران، وأن العديد من القتلى كانوا جنود جيش التحرير الشعبي. وأصرت الصين على أنه لم تكن هناك مجزرة للطلاب في ساحة تيان آن مين، وأن الجنود في الحقيقة أخلوا ساحة تيان آن مين من المتظاهرين دون إطلاق رصاصة واحدة. (أسوشيتد بريس في 6 حزيران 1989).
وأكدت الحكومة الصينية أيضاً أن جنوداً غير مسلحين دخلوا ساحة تيان آن مين في اليومين السابقين لـ 4 حزيران وقد أحرقوا وأعدموا وعلقت جثثهم بالحافلات. وتحول جنود آخرون إلى رماد عندما أشعلت النيران بعربات عسكرية ولم يتمكن الجنود من الخروج منها، وضرب كثيرون آخرون على نحو خطير خلال الهجمات العنيفة للرعاع.
هذه الروايات كانت حقيقية وموثقة جيداً. ليس من الصعب تصور العنف الذي كان سيتعامل به البنتاغون ووكالات فرض القانون الأمريكية لو أن حركة (احتلوا)، على سبيل المثال، أحرقت على نحو مماثل الجنود ورجال الشرطة وأخذت أسلحتهم وأعدمتهم، عندما كانت الحكومة تحاول إخلاء الأماكن العامة.
وصفت صحيفة (واشنطن بوست) في مقالة في 5 حزيران 1989 كيف نظم المقاتلون ضد الحكومة الصينية أنفسهم في وحدات من 100 -150 شخصاً وكانوا مسلحين بقنابل مولوتوف وهراوات جديدة، لمواجهة قوات جيش التحرير الشعبي التي لم تكن مسلحة في الأيام السابقة لـ 4 حزيران
لم يكن ما حدث في الصين وما أزهق حياة الجنود وخصوم الحكومة في 4 حزيران مجزرة طلاب مسالمين، بل معركة بين جنود جيش التحرير الشعبي وفصائل مسلحة مما تسمى بالحركة المؤيدة للديمقراطية.
أقرت (واشنطن بوست) في رواية لصالح المعارضة للحكومة في 12 حزيران 1989 أن المتظاهرين أحرقوا في إحدى الجادات غرب (بيجينغ) قافلة عسكرية كاملة مؤلفة من أكثر من مئة شاحنة وعربة مدرعة.
وتدعم ا لصور الجوية للحريق وأعمدة الدخان بقوة حجج الحكومة بأن الجنود كانوا ضحايا لا جلادين. وثمة مشاهد أخرى تظهر جثث جنود وهناك متظاهرون يجردون جنوداً من بنادقهم الآلية دون مقاومة.
قامت صحيفة (وول ستريت جورنال)، الصوت الأول للعداء للشيوعية، بدور زعيمة المشجعين الصاخبين للحركة (المؤيدة للديمقراطية)، ولكن تغطيتها بعد 4 حزيران مباشرة أقرت أن العديد من (المحتجين الراديكاليين، بعضهم الآن مسلح ببنادق وعربات مصادرة في اشتباكات مع الجيش) كانوا يستعدون لاشتباكات مسلحة أكبر. يرسم تقرير (وول ستريت جورنال) عن أحداث 4 حزيران صورة حية:
(عندما اقتربت أرتال الدبابات وعشرات آلاف الجنود من تيان آن مين، هوجم جنود كثيرون من قبل غوغاء غاضبين… سُحب عشرات الجنود من الشاحنات وضُربوا بقسوة وتركوا يموتون. في نقطة تقاطع غرب الساحة جثة جندي شاب ضُرب حتى الموت ونزعت ملابسه وعلق عارياً بجانب حافلة. وجثة جندي آخر شُنق في نقطة تقاطع شرق الساحة). (5 حزيران 1989).
المجزرة التي لم تحدث
في الأيام التي أعقبت مباشرة 4 حزيران دأبت مانشيتات ومقالات (نيويورك تايمز) على القول إن (آلاف) النشطاء السلميين قُتلوا عندما أرسل الجيش دبابات وجنوداً إلى الساحة. والرقم الذي استخدمته نيويورك تايمز كتقدير لعدد القتلى كان 2600 وكان الرقم يشير إلى عدد النشطاء الطلابيين الذين قتلوا في تيان آن مين. وتحدثت كل وسيلة إعلامية أمريكية تقريباً عن مقتل (آلاف عديدة). وقالت وسائل إعلام عديدة إن عدد الذين قتلوا بلغ ثمانية آلاف.
قال تيم روسرت، رئيس مكتب تلفزيون (إن بي سي) في واشنطن، في برنامج تلفزيوني فيما بعد إن (عشرات الآلاف) قتلوا في ساحة تيان آن مين.
الصيغة الخيالية لـ (المجزرة) جرى تصحيحها بدرجة بسيطة من قبل صحفيين غربيين شاركوا في الفبركات، وكانوا متحمسين لذكر أرقام قياسية، لذلك أمكنهم القول إنهم أجروا (تعديلات). ولكن كان ذلك متاخراً جداً وعرفوا هم ذلك أيضاً. كان الوعي العام قد تكوّن. وأصبحت القصة الزائفة هي القصة المهيمنة. لقد نجحوا في ذبح الحقائق لتناسب الحاجات السياسية لحكومة الولايات المتحدة.
كتب جي ماثيوز، رئيس مكتب (واشنطن بوست) في بيجنيغ، في مقالة في مجلة كولومبيا للصحافة في عام 1998: (كان معظم الصحفيين الأجانب في تلك الليلة، وأنا من ضمنهم، في أجزاء أخرى من المدينة أو أبعدوا عن الساحة، لذلك لم يشهدوا الفصل الأخير من قصة الطلاب).
جاءت مقالة ماثيوز، التي تضمنت اعترافاته باستخدام مصطلح مجزرة تيان آن مين، بعد تسعة أعوام من الأحداث، وأقر بأن التصحيحات اللاحقة كان لها تأثير بسيط. (حقائق تيان آن مين كانت معروفة منذ زمن طويل. وعندما زار كلينتون الساحة في حزيران من هذا العام، أوضحت كلٌّ من (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز) أنه لم يقتل أحد في ساحة تيان آن مين خلال فرض النظام في عام 1989 ولكن هذه كانت شروحات قصيرة في نهايات مقالات مطولة، أشك في أنها فعلت الكثير لقتل الأسطورة).