عودة الحرب الباردة..!
بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى المهيمنة على الساحة الدولية لعدة أسباب، منها:
1- قوتها العسكرية التي تتفوق بها على دول العالم مجتمعة.
2- وضعها الحيوي في الاقتصاد العالمي.
3- سياستها القائمة على تقديم المساعدات والدعم لدول كثيرة.
4- القدرة على التدخل لحل الأزمات الإقليمية والدولية.
الأمر الذي دفع شخصيات سياسية أمريكية بارزة للاعتقاد بأن واشنطن قد أصبحت قبلة العالم. لكن نتيجة سياسات جورج بوش الثاني الخرقاء دخلت واشنطن في أزمات نتيجة استراتيجية السياسة الخارجية التي اتبعتها. وأتت الأزمة الاقتصادية عام 2008 لتكشف عن ضعف في النظامين المالي والاقتصادي للولايات المتحدة، الأمر الذي هز مصداقيتها السياسية، وأثار لدى حلفائها الشكوك بها كقوة مهيمنة يمكن الاعتماد عليها. لذلك بدأت العديد من عواصم العالم تقوم بمراجعة مبادئ سياستها الخارجية ومفاهيمها، وعلاقاتها الدولية، حتى تضمن توازن منظومة سياستها الخارجية، تفادياً لأي انعكاسات سلبية تضر بمصالح أمنها القومي، في عالم يتغير، ولم يعد فيه شيء ثابت على حاله.
خلال هذه الفترة، ساد الاعتقاد أن المواجهة الروسية- الأمريكية التي استمرت ما يقرب من نصف قرن قد انتهت إلى غير رجعة، وأن موسكو، التي بدأت بالتوجه نحو اقتصاد السوق، واعتناق المبادئ الليبرالية، لم تعد نداً لواشنطن. عزز من ذلك الانهيار السريع في القدرات الاقتصادية والعسكرية الروسية من ناحية، وعدم معارضتها للإرادة الأمريكية في العديد من القضايا مسّ بعضها الأمن القومي الروسي وهدد مصالحها الحيوية، كامتلاك الولايات المتحدة قواعد وتسهيلات عسكرية في دول آسيا الوسطى التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وتوسيع حلف شمال الأطلسي وضم دول أوربا الشرقية إليه التي كانت بالأمس القريب منطقة نفوذها الرئيسية، وتشجيع الولايات المتحدة للثورات (الملونة) في دول الجوار الروسي خاصة أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان.
كانت مبادرة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في كانون الثاني 2007 بإنشاء الدرع المضادة للصواريخ في التشيك وبولندا، المناسبة الأولى التي ظهر فيها الخلاف، بين الدولتين، للعلن، بعد أن تجاوزت روسيا فترة النقاهة واستعادت الكثير من قوتها، خاصة الاقتصادية والعسكرية. ثم أتت الأزمة الجورجية 2008 التي صمدت خلالها روسيا في وجه الضغوط الأمريكية، ومثلت أول تحد حقيقي لواشنطن، وأول كلمة (لا) تُطلق في وجهها منذ نهاية الحرب الباردة. وتأكدت التوجهات الروسية في تحديها لواشنطن خلال الأزمة السورية منذ عام 2011 عندما وقفت موسكو بحزم في مواجهة واشنطن لحماية مصالحها والدفاع عن حلفائها. وكانت الأزمة الأوكرانية التي بدأت في تشرين الثاني 2013 نقطة التحول في العلاقة بينهما نحو المواجهة المباشرة والعداء العلني. فقد أكدت الأزمة أهداف واشنطن الحقيقية المتمثلة في تطويق روسيا ومد نفوذ حلف شمال الأطلسي حتى حدودها، وأن الغرب لا يمكن أن يقبل بها شريكاً قوياً. كما شكل ضم روسيا لشبه جزيرة القرم صفعة قوية للغرب أدرك على أثرها ما آلت إليه موسكو من قوة وقدرة، وما تتطلع إليه في المستقبل من مكانة، ليزداد عزمه على إضعافها وتقويض قدراتها.وأخيراً، الإعلان عن بدء سباق تسلح جديد بين الطرفين، الأمر الذي ينهي سنوات طوالاً عرفت تخفيض موازنات الدفاع وتفكيك منظومات الصواريخ وتدمير بعض أنواع الأسلحة غير التقليدية.
بناءً على ذلك، فإن القضايا والمناطق التي تعتبرها موسكو تهدد أمنها القومي هي التي يحتمل أن تسودها في الفترة القادمة لغة المواجهة والصراع. الأمر الذي قد يعيد إلى العلاقات الروسية الأمريكية خطاب الحرب الباردة، وهو ما لن يقف- في حال حدوثه- عند حدود تلك العلاقات، بل قد يمتد ليشمل خريطة العلاقات الدولية برمتها. هذه المعادلة لا تخفف من خطر الحرب على الاستقرار العالمي، بل ستزيده قلقاً واضطراباً، وربما دموية في بعض المناطق. وحتى تقتنع واشنطن بأن السبيل الوحيد للتعامل مع موسكو هو من منطلق الاحترام المصالح المتبادلة، سيظل التناقض الاستراتيجي وأزمة الثقة هما السمة الغالبة على العلاقات بين العاصمتين.