التربية الروحية والأخلاقية
يقول ألبرت أنشتاين: (النّسبيّة تنطبق على الرّياضيّات وليس على الأخلاقيات)! فما هي الأخلاق؟!!
الأخلاق هي مبادئ الصّواب والخطأ الّتي يترعرع عليها الأطفال، وهي حصيلة للنهج التّربوي والتّعليمي الّذي تنهجه كلّ أسرة وكلّ مؤسسة تربوية في مجتمعها التّعليمي، ولكن بنتيجة الأزمات الّتي تعرض لها المجتمع السّوريّ نجد أنّه فقد العديد من القيم الأخلاقية الّتي كانت متأصلة فيه. لذلك نحن بحاجة اليوم لأن نتوقف عندها كي نتمكن من إعادة إحيائها في مجتمعاتنا، وكي نتمكن بطرق عملية من أن نغرسها في نفوس أولادنا وسلوكهم، لذلك نحن بحاجة إلى أن نتذكّر مراحل النّموّ الأخلاقي للإنسان بحسب العالم النّفسيّ الأميركي لورانس كولبرغ الّذي قسم مراحل النّموّ الأخلاقي إلى مراحل كالآتي:
1. المراحل ما قبل التّقليدية: وتشمل هذه المرحلة الأطفال فقط، إذ نُقيّم السّلوكيات فقط من منظور النّفس:
(أ). المرحلة الأولى: الأخلاق المدفوعة بالعقاب: في هذه المرحلة يكون الخطأ الّذي يتجنّبه الفرد هو الخطأ الّذي يجلب العقاب والألم، والسّلوك الأسوأ هو السّلوك الّذي يجلب العقاب الأشدّ.
(ب). المرحلة الثّانية: الأخلاق المدفوعة بالمصالح: وهنا يقيّم السّلوك بقدر ما فيه من فائدة للنفس أو الأسرة المباشرة أو الجماعة الّتي ينتمي إليها كلّ فرد، ويبرّر هذا النّوع من الأخلاقيات علاقات المنفعة والمصلحة وعدم التزام الفرد فيها بالوعود والعهود والعقود وتغيير المواقف والمبادئ إذا تعارضت مع مصالحه أو مصالح الجماعة الّتي ينتمي إليها.
2. المراحل التّقليديّة: وتشمل المراهقين، وتقيّم السّلوكيات هنا من منظور قيم الجماعة أو قوانين المجتمع.
(ج). المرحلة الثّالثة: الأخلاق المدفوعة بالتّوافق مع الآخرين: تُقيّم السّلوكيات في هذه المرحلة بتأثيرها في حصول الإنسان على الموافقة من الآخرين والتّوافق معهم. أي أن يقوم الإنسان بتصرفات غير مقتنع بها أو لم يفكّر قط في منطقيّتها، وذلك فقط لئلا يخرج عن الإجماع أو يخرق الثّوابت.
(د). المرحلة الرّابعة: الأخلاق المدفوعة بالطّاعة للقانون: في هذه المرحلة يُقيّم وفقاً لتوافقه مع القوانين الّتي تهدف إلى المصلحة العامّة للمجتمع، هذه المرحلة أكثر تطوراً من المرحلة السّابقة لأنّه هنا يطيع القانون حتّى وإن تعرض لرفض الأقران أو استهجانهم، لأنّه يُؤمن بأنّ القانون يراعي مصالح الجماعة.
من المفروض أن يكون كلّ من بلغ سن الرّشد وتجاوز مرحلة المراهقة قد وصل إلى هذه المرحلة، غير أنّ كثيراً من الرّاشدين لم يصلوا بعد في نضجهم إلى هذه المرحلة الأخلاقية، والّذي يُشجع على ذلك هو الضّعف في تطبيق مثل هذه الضوابط الأخلاقية في القوانين، مثلاً تجاهل القانون لمعاقبة من يلحق الأذى والألم العاطفي بالآخرين.
3. المراحل ما بعد التّقليديّة: وتشمل روّاد التّغيير الاجتماعيّ والسّلوكي.
(ه). المرحلة الخامسة: أخلاق العقد الاجتماعيّ: العقد الاجتماعيّ هو الاتّفاق المكتوب بين الفرد والجماعة الّذي بمقتضاه يتنازل الفرد عن بعض حرّيّته الفرديّة ليُطبّق قوانين موضوعة لمصلحة المجتمع وخيره. مثلاً: يتنازل الفرد عن قيادة سيّارته بالسّرعة الّتي يريد ويلتزم بالسّرعات المحدّدة، لأنّ في ذلك مصلحة ومنفعة للآخرين.
إنّ هذا العقد الاجتماعي هو المبرر الشّرعيّ للقوانين؛ أمّا إذا كانت القوانين قد وُضِعت بطريقة سلطويّة غير ديمقراطيّة، ولا تحقق العدالة وحقوق الإنسان، ولا تؤدي إلى تحقيق الخير المطلق لأكبر عدد من النّاس، فإنّ الواجب الأخلاقي في هذه الحالة هو رفض هذه القوانين ومحاولة تغييرها بأسلوب ديمقراطي.
(و). المرحلة السّادسة: مرحلة المنطق المجرّد: عندما تسود الأخلاق ما قبل التّقليديّة الرّاغبة في الهرب من العقاب والحصول على المكافأة بين الأطفال، فهذا أمرٌ طبيعيّ؛ وعندما تسود بين المراهقين أخلاق التّوافق الاجتماعيّ الهادفة إلى مجرّد أن يكون المرء مقبولاً من الجماعة، فهذا طبيعي أيضاً، أمّا عندما تظلّ هذه الأخلاقيات سائدةً بعد هذه المراحل العمرية، فهذا يُمكن اعتباره (تَخلُّفاً أخلاقيّاً)؛ ومن المؤسف أنّ هذا التّخلّف الأخلاقي هو الّذي أصبح القاعدة الأساسية للسلوك بين البشر. ولمواجهة هذا التّيار من التّخلّف نحن بحاجة إلى تحدٍّ قويّ لكي يتمكّن كلّ فرد من أن ينمو ويتطور أخلاقياً بعيداً عن الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة من خلال بناء علاقات أكثر إيجابية بالنّفس وبالآخرين.
4. قيم أخلاقية تحتاج إلى التّوكيد: عندما يمرّ مجتمع ما بتحدّ معيّن أو بأزمة، فإنّ الموّجه لسلوك النّاس يصبح الخوف من العقاب، أو تحقيق المصالح، أو تبرز أخلاقيات التّوافق مع الآخرين وتجنّب العزل والرّفض.
وعندما تُعاني دولة من أزمة في أخلاق شعبها نتيجة لضعف قوانينها واللّيونة والتّقاعس في تطبيق القواني،ن نلاحظ أنّه مع الوقت يتناقص الخوف من العقاب، وتقوى أخلاقيات الرّفض والقبول المرتبطة بالآخرين، ثمّ المرتبطة بالشّكل الخارجي الّذي يُمكن أن يراه الآخرون، أمّا الأخلاق الّتي لا تعبّر عنها سلوكيات ظاهريّة، فهي الّتي تُعاني ضعفاً شديداً، ومن أمثلة هذه الأخلاقيات الغائبة في مجتمع الأخلاق الظّاهريّة أو الخارجية:
– الصّدق وقول الحقّ دون الخوف من اللّوم.
– العطاء وإحساس الأفراد بعضهم بالبعض الآخر.
– الغفران والتّسامح.
– الوفاء بالوعود والتزام العهود والعقود مهما كانت المغريات قويّة.
– حفظ حقوق الآخرين حتّى ولو لم يطالبوا بها.
– الثّبات على المواقف مهما كانت المصاعب والتّحديّات.
– الشّهامة ونصرة الضّعيف والمظلوم.
– المواجهة وعدم استغياب أحد والنّميمة عليه.
– عدم الأخذ بالشّبهات، والتّريث للاستماع إلى الطرفين.
– التّعامل النّاضج مع المال دون بخل أو إسراف.
– التّعامل النّاضج مع الجنس دون كبت أو إنكار له، ودون تسيّب وانفلات.
– الاهتمام بالجوهر أكثر من المظهر الخارجي.
– قبول الآخرين واحترامهم مهما اختلفنا عنهم أو معهم.
يبقى السّؤال الّذي يطرحه قادّة كلّ مجتمع: كيف نغرس هذه الأخلاقيات في نفوس الأطفال والمراهقين؟!!
من الضّروري أن نؤمن بأنّ الأخلاقيات لا تُغرس بالثّواب والعقاب، بل بالتّعليم والقدوة والمتابعة بحيث تصبح القيم الأخلاقيّة معتقدات محوريّة راسخة في وعي الإنسان وضميره، فلا يستطيع أن يخالفها ويعيش معها في شعور كامل بالاتزان والاستقرار الدّاخلي.
والمقصود بالتّعليم هنا شرح القيمة الأخلاقية والحديث عنها في كلّ مناسبة، ثمّ يأتي دور القدوة، إذ يفترض أن يعيش الآباء والأمّهات ما يعلمونه لأولادهم، وأن ينتبه الآباء إلى أنّ تطبيق الأخلاق هو القاعدة، وإذا حدث أن فشلوا فعليهم أن يعترفوا بفشلهم ويعتذروا عنه، وعليهم متابعة أطفالهم في تنفيذ هذه المبادئ، بالحوار وجلسات المناقشة العائلية، فالأخلاق تُزرع ولا تُفرض؛ هذه قصّة حقيقية مثال عن النّتيجة الّتي توصلنا إليها الأخلاق عندما تُفرض بالقوّة، هي قصّة رجل أراد أن يعلّم فتى عدم الوثوق بالآخرين: ذات يوم، كان رجلٌ غنيّ ماراً في ساحة المدينة فشاهد يافعاً يبيع بعض الأشياء، فأعجب بعمله، وعندما اقترب منه أعجب بصدقه، ولكنّه وجده بسيطاً ويثق بالآخرين بسرعة لأنّه كان يؤمن بالحكمة القائلة: عامل الآخرين كما تُحبّ أن يعاملوك، فقرّر هذا الرّجل أن يعلّم هذا اليافع ألاّ يثق بالآخرين، فجعل كلّ المارّة في السّوق يستهزئون منه وبسخرون من بضاعته وينشرون الأكاذيب فيما بينهم، ووضع مجموعة من الأطفال تقوم بملاحقته وإيذائه بالكلام الكاذب والجارح، وقام بالاتّفاق مع أقارب الفتى فأخذوا يتناولونه في مجالسهم، ومع الوقت بدأ النّاس يملون من هذه الرّجل ومن كذبه وبدؤوا يشفقون على الفتى الطّيب فهو لم يخطئ ولم يؤذِ أحداً أبداً، فبدأ بإزعاجه أكثر وبدأ بنشر أكاذيب أقوى وبدأ باختراع دلائل من صنعه كي يؤكّد حديثه المزعوم للناس، وزادت ملاحقته للفتى، وزادت مضايقة الأطفال له، حتّى استيقظت ساحة المدينة يوماً ووجدت الفتى ميتاً بالقرب من عربته لأنّه تألّم بشدّة وبصمت ولم يتمكّن أحد من مساعدته.
أريد أن أسأل هل تعلّم الفتى عدم الوثوق بالآخرين أم تعلّم معنى الألم وما تفعله غيرة الأقارب؟ هل تعليم قيمة يقتضي بأن نعيث فساداً بمجتمع كامل كي نزرع قيمة معيّنة بنفس إنسان واحد؟!! وهل اختبار معدن الأشخاص يتم بجعل شخص ما موضع سخرية واستهزاء من الجميع ؟!! وهل يستطيع عابر سبيل أن يقيّم سلوك شخص ما وأن يتخذ قراراً بتعليم هذا الشّخص قيمة معيّنة؟!!
5. أخلاقيات الحبّ: الحبّ هو منبع الأخلاق، فالأخلاق الكريمة هي أن تحبّ الآخر ولا تُسيء إليه، ويمكن أن يكون هذه الآخر هو فرد أو مجتمع أو حتّى البيئة المحيطة بنا. وأخيراً إنّ التّربية الأخلاقية لا تُفرض بالقوّة ولا تكون بانتهاج الثّواب والعقاب كمبدأ وإنما تكون بالحوار والشّرح والقدوة والمتابعة، فكثير من المشاكل في أيّ مجتمع تأتي من غياب الأخلاق.
المرجع:
A step forward, volume (?)