لماذا كان ماركس محقّاً؟! (25)
يعترف بعض أنصار مذهب التعدّدية أنه يمكن لمثل هذه الوقائع أن تنجم عن سبب رئيس واحد. ولكنهم لا يقتنعون بأن السبب ذاته هو المسؤول في كل حالة. والأقلّ تصديقاً فيما يسمى بنظرية الاقتصاد التاريخي هذه هو بالطبع القولُ بأن كلّ شيء يحصل في كل زمان ومكان بدقة وبطريقة مماثلة. وهل يعني ذلك أن التاريخ ظاهرة وحيدة ومنتظمة بسرية تامة، كقضيبٍ من السُّكَّر؟ هناك أكثر من سبب للاعتقاد بأن وجع رأسي يعود إلى الباروكة الضيقة من طراز مارلين مونرو التي أردتُ ارتداءها حتماً في ذلك الحفل. إلا أن التاريخ ليس واقعة واحدة كالصداع، ولكنه، وفق رجل ذكي، ببساطة، قضية ملعونة تلو أخرى، من دون ذلك الترابط الداخلي الذي نجده في أسطورة أو الشكل الذي نجده في قصة مقنعة، ومن دون أيّة وشائج خفيّة ذات مغزى تخترق وقائعه من أوّلها إلى آخرها.
وكما قلنا، لا أحد يعتقد عموماً بعدم توافر نماذج يمكن التعرّف عليها في التاريخ. كما لا نتصوّر أن أحداً يرى في التاريخ تراكماً لا على التعيين من الفوضى والمصُادف وسوء الطالع والتطابق الزمني. ومع ذلك، فقد اقترب كثيراً جداً كلٌّ من نيتشه Nietsche وتلميذه فوكوFoucault أحياناً من وجهة النظر هذه. يعتقد أغلب الناس أن التاريخ يتألّف من ترابط شديد بين سببٍ ونتيجة، مهما كان اكتشافهما عسيراً، مما يتنج عنه نموذج تاريخي على وجه التقريب. فمن الصعب على سبيل المثال أن
نتصوّر عدم وجود أيِّ رابط بين الدوافع التي جعلت أمما مختلفة تحتلُّ المستعمرات في المرحلة التاريخية المحدَّدة ذاتها. ولم يُنقل العبيد الإفريقيون دون سبب إلى أمريكا. ولا يعود انتشار الفاشية في بعض بلدان القرن العشرين في الوقت ذاته تقريباً إلى محض رغبةٍ في التقليد. ولا يرمي بعض البشر بأنفسهم إلى التهلكة بقصد المزاح أو بسبب الطيش. لا يحصل ذلك عمداً، وهذا ما توضّحه لنا الخبرة المتطابقة في هذا الشأن في كلّ أصقاع الأرض.
ليس السؤال عمّا إذا كان يوجد في التاريخ نموذج تاريخي، وإنما السؤال هو عن وجود نموذج غالب ومسيطر. من الممكن أن نعتقد بوجود ذلك، من دون أن نعترف بوجود هذا الأخير. لكن، لماذا ليس الأمر سلسلة من الشخصيّات والأحداث المتعاقبة التي لم تنصهر أبدا في وحدة متكاملة؟ ولماذا على شيء من هذا التنوّع العجيب كتاريخ البشرية أن يُشكِّل قصّة متكاملة؟ إن القول بأن مصالح البشر المادية، من سكان الكهوف حتى النظام الرأسمالي، هي الدافع الرئيس لكل نشاط إنساني، لهُو أكثرُ منطقيّة من الاعتقاد بأنها
هي طريقة التغذية أو إيثار الآخرين، أو عمل رجال عظام، أو القفز العالي، أو تأثير حركة الكواكب. ومع ذلك يبدو لنا أن هذا الرأي وحيد الجانب ولا يستطيع إرضاءنا.
وإذا كان هذا الرأي يرضي ماركس، فمردّ ذلك إلى أنه لم ير التاريخ بهذا التنوّع والتلوّن الذي هو عليه بالفعل، وأنه أبسط بكثير مما نعتقد. وللتاريخ نوع من الوحدة، وان لم تكن كذلك، التي تمنحنا شعوراً بسيطاً بالسرور، كما تفعله وحدة (Bleak House، فيلم بريطاني طويل وفق الرواية التاسعة لريتشارد ديكّنز) أو Zwoelf Uhr mittag)، وهو أيضاً فيلم طويل). غالباً ما كانت الأحداث التي صنعته: الفقر والعمل الشاق والعنف والاستغلال. وعلى الرغم من أن هذه الظواهر قد اتخذت أشكالاً مختلفة، إلا أنها ما زالت تشكّل حتى
يومنا هذا أساس كلِّ حضارة موثَّقة. هذا التكرار المملّ والعفن يجعل التاريخ أكثر تماسكاً مما هو مرغوب فيه.
ومع ذلك، هناك للأسف قصة كبيرة. يقول تيودور أدورنو في هذا الصدد: (الشيء الوحيد والكلّ الدائم النافع حتى الآن، مع بعض الاستراحات، هو الألم المطلق. إن قصة التاريخ لا تدور حول التقدم أو العقل أو التنوير.
إنها قصة حزينة تخطو من عصر المقلاع إلى عصر القنبلة الهائلة).
يمكننا بالتأكيد الانضمام إلى الرأي القائل بأن العنف والعمل الشاق والاستغلال أمور لعبت دوراً هاماً في تاريخ الإنسانية، من دون المبالغة إلى حدِّ اعتبارها أساس التاريخ طراً. يُسبغ الماركسيون عليها أهمية كبيرة لأنها على علاقة وثيقة مع بقائنا جسديّاً على قيد الحياة. وهي مواصفات ثابتة في نوع المحافظة على وجودنا وطريقته، وليست مجرد وقائع مصادفة. ولا نتحدث هنا عن أعمال عنف متفرّقة أو عن عدوانيّة. وإذا كان يكمن في العمل والاستغلال ضرورة ما، فلأنهم جزء من عملية إنتاج حياتنا المادية وإعادة إنتاجها. وبغض النظر عن ذلك، لا يخطر ببال الماركسي أن هذه القوى هي التي تحدد كل شيء بشكل مطلق. وإلا لكان مرض حمى التيفوئيد، أو تسريحة ذيل الحصان، أو الصوفيّة، أو موسيقا آلام السيد المسيح للموسيقار باخ، أو لون دهان أظافر أقدام النساء، مجرّ د انعكاسٍ لعوامل اقتصادية. لكن، من غير المعقول خوضُ حروبٍ ليس لها دوافع اقتصادية مباشرة، أو توافر أعمال فنيّة تلتزم الصمت، بالنسبة لصراع الطبقات.
يُثير ماركس أحياناً الانطباع بأن السياسي هو انعكاس للاقتصادي. لكنه غالباً ما يحلل أيضاً البواعث الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية لبعض الوقائع التاريخية من دون أن يشير ولو من بعيد إلى أن هذه الدوافع هي ظواهر، مهما كانت سطحية، لعوامل اقتصادية عميقة. تترك العواملُ المادّية أحياناً بصماتها الواضحة في السياسة والفنّ والمجتمع، إلا أن تأثيرها عادة بعيدُ المدى وخفيّ. وقد يكون هذا التأثير مرّة جزئيّاً جداً وقد يكون تافهاً لا يستحق الذكر في مرات أخرى. وكيف تؤثّر طريقة الإنتاج الرأسمالية في اختياري لربطات العنق؟ وما هو تأثيرها في طيران الطيارات الورقية أو موسيقا البلوز الاثني عشري؟
لسنا هنا بصدد التقليل من شأن أيّ شيء. لكن السياسة والثقافة والعلم والحياة الاجتماعية ليست ظواهر اقتصادية متخفّية، كما يدّعي بعض علماء الأعصاب من أن الروح ليست سوى الدماغ المتنكِّر، وإنما لها حقيقتها وتطوّر تواريخها الذاتية وتسير وفق منطقها الداخلي الذاتي. وهي بذلك ليست الصورة الباهتة لشيءٍ آخر، بل إنها هي التي تؤثّر بشكل مستدام في طريقة الإنتاج ذاتها. والعلاقة بين (القاعدة) الاقتصادية و(البنية الفوقية) الاجتماعية، كما سنرى بعد قليل، ليست وحيدة الجانب فقط. لكن أيّة نظرية سيتم وضعها بدلاً عن ذلك، إذا لم يتعلّق الأمر بنوع مّا من الجبرية الآلية؟ وهل ستكون مبهمة وعامّة، لا حول ولا قوّة لها، سياسياً؟.
هذه النظرية هي بالدرجة الأولى سلبية. وهي تفترض أن طريقة إنتاج البشر لحياتهم المادية تحدّ من المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية التي ابتدعها الإنسان ذاتُه. كلمة الجبرية تعني أصلاً (وضع الحدود). طرق الإنتاج لا ترسم لنا نوعاً من السياسة أو الثقافة أو التفكير. لم تكن الرأسمالية سبباً لفلسفة جون لوك John Locke ) ) أو روايات جين أوستن Jane Austen))، وإنما على الأغلب سياقاً يمكن تفسيرهما من خلاله. كما ليس صحيحاً أيضاً أن النظام الرأسمالي يأخذ بالأفكار أو المؤسسات التي تخدم
غاياته فقط. وإلا لكانت الماركسية ذاتُها بشكل خاص مستحيلة. ولكان من الأحاجي كيفية نشوء مسرح الشارع الفوضوي، أو كيف استطــــاع توماس بين Thomas Paine في إنكلترا تلك الأيام، الدولة البوليسية الأشد تعسّفاً إطلاقاً، تأليف كتابه (حقوق الإنسان) الأكثر مبيعاً على مرّ الأزمان. ومع ذلك فقد كنا سنتعجّب لو أن الثقافة الإنكليزية لم تقدّم لنا سوى توماس بين ومسرح الشارع الفوضوي. فأغلب الكتّاب والعلماء ووكالات الدعاية والجرائد والمعلّمين وأقنية التلفاز لا يُنتجون شيئاً يمكنه أن يهدد الوضع القائم. هذا واضح وضوح الشمس لدرجة أننا لا نعتبره هاماً. لكن ماركس يبيّن لنا أن ذلك لا يحدث مصادفة. وبذلك يمكن التعبير عن الجانب الأكثر إيجابيّة من نظريته.
تأليف: تيري إيغلتون