لماذا كان ماركس محقاً؟! (30)
رفض ماركس، بشجاعة، الفاعل السلبي في المادّية البرجوازية واستبدل به فاعلاً إيجابياً ونشيطاً: على كلِّ فلسفةٍ أن تنطلق من المقدمة التي مفادها أن البشر، مهما كانوا، وقبل كل شيء، أشخاص فاعلون، ويتغيّرون في أثناء تغييرهم لمحيطهم المادّي. هم ليسوا دمى بيد التاريخ أو المادّة أو الروح، وإنما هم كائنات نشيطة تقرّر مصيرها بنفسها وقادرة على صنع تاريخها بيدها، مما ينتج عنه أن الرؤية الماركسية رؤية ديمقراطية، بعكس النخبويّة الفكرية لعصر التنوير. وهكذا يمكن للأفكار التي تؤثّر في حياتنا أن تتغيّر بالفعل عن طريق نشاط الأكثرية العملي والجماعي، لأنها مغروسة في عمق سلوكنا الفعلي.
ومن هذه الزاوية يمكن القول إن ماركس كان أكثر عداء للفلسفة من كونه فيلسوفاً وكانت إتيينّ باليبارEtienne Balibar ) ) محقة عندما قالت عنه بأنه (ربما كان أكبر معادٍ للفلسفة في العصر الحديث).
معادو الفلسفة أناس يواجهون الفلسفة بكثير من الارتياب، وليس ذلك فقط بسبب الدوافع التي قد نراها عند براد بيت Brad Pitt، (ممثل أمريكي ومنتج سينمائي) وإنما لأسباب فلسفية وجيهة. فهم يميلون إلى أفكارٍ مطبوعةٍ على الشك في الأفكار. ومع أنهم منطقيّون جداً، إلا أنهم يؤمنون بأن العقل ليس خاتم الحكمة. وفي هذا المجال كتب فويرباخ Feuerbach ))، الذي استقى منه ماركس الكثير من مادّيته، إن على كلِّ فلسفة حقيقية أن تبدأ بعكسها، أي باللافلسفة، وأن على كلِّ فيلسوف أن يقبل في الإنسان (ما لا يفلسف، أو
بالأحرى ما هو ضد الفلسفة، أي ما يعارض التفكير المجرَّد). كما قال بأن (الإنسان هو الذي يفكّر، وليس الأنا أو العقل). وفي ذلك يقول ألفرد شميتّ Alfred Schmidt ) ) بأن (علم الإنسان ككائنٍ ذي أعضاء ذات وظيفة، وحسّاس، وذي حاجات، هو مقدَّمة كل نظرية عن الشخصانيّة). وباختصار، فإن وعي الإنسان جسديّ. وهذا لا يعني أنه ليس أكثر من الجسد، مما يجعلنا نستنتج أن الجسم، من وجهة نظر معيَّنة، دائماً غيرُ مكتمل، ومنفتح، ودائماً قادر على إنجاز المزيد من الإبداع، أكثر مما هو ظاهر حالياً.
وبالتالي فإننا نفكّر، كما نفكّر، لأننا الحيوانات التي نحن عليها. وإذا امتد تفكيرنا في الزمن، فلأن ذلك ممكن بالنسبة لجسمنا وحواسنا.
يتساءل الفلاسفة أحياناً عمّا إذا كانت الآلةُ قادرة على التفكير؟ هذا ممكن.
لكنها ستفعل ذلك بشكل مغاير تماماً لطريقة تفكيرنا، لأن تركيبة الآلة ومواصفاتها مختلفة تماماً عنا. وعلى سبيل المثال، لن يكون للآلة احتياجات جسدية ومشاعر كتلك المشاعر المرتبطة عند الإنسان باحتياجاته.
طريقةُ تفكيرنا لا تنفصم إطلاقاً عن تركيبتنا العاطفية والحسيّة والعملية. ولهذا قد لا نستطيع أن نفهم ماذا ستفكّر الآلة به لو استطاعت ذلك.
كانت الفلسفة التي قطع ماركس علاقته بها عمليّة تأمّل. وكان الوضع النموذجي للتفلسف فيها يكمن في أن فاعلاً بشرياً سلبياً، معزولاً ولا جسد له، يتعمّق في النظر الموضوعي لقضيّةٍ معزولة عن محيطها. وكما رأينا، فقد رفض ماركس مثل هذا الفاعل السلبي. وعلاوة على ذلك، كان من القائلين بأن معرفتنا ليست شيئاً ثابتاً على مرّ العصور، وإنما هي نتاج نشاطاتنا عبر الدهور. وكما علينا أن نتصوّر أن الفاعل هو الممارسة اليومية، علينا أن نتصوّر أن العالم الموضوعي هو نتاج ممارسة الإنسان أيضاً. وهذا يعني أنه من حيث المبدأ متغيِّر باستمرار.
عندما نرى في الإنسان الكائن النشيط والعملي وننظر إلى تفكيره في هذا الإطار، تبدو لنا بعض القضايا، التي شغلت الفلاسفة مدداً طويلة، بشكل مختلف تماماً. فالبشر الذين يؤثّرون عن طريق عملهم في العالم يختلفون عن أولئك الذين يتأمّلونه عن بُعد ولا يخطر ببالهم أن يشكّوا، لحظة واحدة، في حقيقية هذا العالم.
ولا يوجد بالفعل شكّاكون، إلا لأن هذه الحقيقة موجودة. ولو لم يكن هذا العالم المادّي الذي يُطعمهم موجوداً، لانقرضوا مع شكوكهم. وعندما نعتقد أن البشر يواجهون العالم بسلبيّة، فقد نصل إلى الشكّ في وجود هذا العالم. لكن الأشياء تقنعنا بوجودها عن طريق مقاومتها لرغباتنا. وهذا ما يحصل بالدرجة الأولى في سياق ممارستنا العمليّة.
يسأل الفلاسفة أحياناً عن تفكير الآخرين: من أين لنا أن نعرف أن للأجساد البشرية التي نلتقي بها أفكاراً ومشاعر مثلنا. قد يُجيب إنسان مادّي بأنهم، لو لم يكن لهم فكر، فلربما لم يكونوا موجودين أصلاً لطرح هذا السؤال. لايوجد إنتاج مادّي يُبقينا على قيد الحياة دون تعاون اجتماعي. وما يخلق الفكر الإنساني هو إلى حدٍّ كبير كفاءةُ التواصل مع الآخرين. ويمكننا القول أيضاً بأن كلمة (فكر) تعني وصف سلوك الجسد بطريقة معيَّنة، الجسد الذي يتصرّف بشكلٍ مبدع ومنطقي وتوّاق للتواصل. ليس من الضروري أن ننظر إلى داخل عقل البشر أو أن نصلهم إلى أجهزة كشفٍ خاصة حتى نرى ما إذا كانوا يملكون هذه الخاصيّة العجيبة. علينا أن ننظر فقط إلى ما يفعلونه. الوعي ليس شبحاً. يمكننا أن نراه ونسمعه ونشعر به. الأجسادُ البشرية هي كتل مادّية، لكنها من نوعٍ خاص ومبدع ومعبِّر عن ذاته. وهذه الخاصيّة المبدعة هي تماماً ما نسميه (الروح).