لستَ ابن الحرب أمك أنا قبل أن أولد..
قهوتكَ بردتْ، إنهِ فنجانك، في الثكنة لا يجيدون تحضير البنْ. مالحٌ طعمها؟ زجاجة البحر نفذت البارحة، سكبتُها كلها في عينيّ.
دعني أسقيكَ عذب القطرة، يقولون: لآلهة الشرق تعويذةٌ ألقتها في النبع، ومن يومها تنغرس الشآم بمآقي شاربي الفيجة، ويصابون بإدمانِ الحنين.
كويتها جيداً بدلتك، انظرها تليق بقامتك، وإن كنتَ صوبَ الجبهة تمضي، جميلٌ أن تقابل سحنةَ الحرب بأناقة، لعلها ترى في وسامتكَ قباحة وجهها فتنوء خجلى.
يفوح عطرك هنا، لأنامله قدرة على التعلق بالزوايا، بالستائر وبشعري، مخلصٌ هو عطر الأحبة. حقيبتك خلف الباب، آه الباب! لن أودعك عند عتبته كما تغني فيروز الآن. رفعتُ منها ثرثرة الأمس، خصامنا الصغير، عتب الغياب. ثقيلة هي؟ قليلاً عزيزي، حزمتُ فيها ماسَ ذكرياتنا.
انتظر قليلاً، انظر قرمزيٌّ كتفُ الغيمة العابرة سماءنا. في يومٍ وشمنا في منكبيها حلمَ البلاد. أراها تترنح سكرى، أبيض ثوبها ينسدل، يغلق مدخل الدار الشرقي. كنا نعد الحمائم المقتربة من أغنياتنا، الأسود قائدها! الأبيض! ربما البني
جميعهم يحطون على الكتف المخضب، النازف، فوق قرميد ذاكرتنا.
ليس معكم زميلكم الضخم، أخبرتني أمه أنهم كادوا يفصلون الانعاش عنه لطول الغيبوبة، هل الموت رحيم كما يزعمون؟ سمعوه يهذي، فأحجموا. يخاطب امرأة، آه زوجته المقتولة، لمن يتركان ولدهما! قامَ وحكى عن رعشات الموت. مشتعلة تفاصيل النهايات يا عزيزي، متوقد رخام العتبة. لخطوات المغادرين جمر. لا زمرة لدمائهم، لا هوية تغلي في رحم الكلمات.
لستَ ابن الحرب. أمك أنا قبل أن أولد، طفلي أنتَ وإن استلك ضجيجها. لا تنفكُّ الساحة البعيدة تلوح لك، يا لجرأة بعض المؤنثات. ولي في هذا كيدٌ، في ذراعك أفيضُ بوردي شالي، دعه ينسكب في حنجرتها عساها تصمتْ.
لمَ تسرع؟ ينادون من عربة المدفع؟ ليفعلوا! كلّ مرة يخطفونكَ لدربهم فتنسى أن تترك في الوجنة وعداً. وخلف الستارة أرقب هشيم الرايات سوداء تبتلعُ بيتنا. صوت الغريب يسفكُ حرمة صمتك. ينتهكُ رحيلك يتجاهل وجودك، أخبرتني يوماً أن للوجود مفهوماً نسبياً، مثله كمثل عتمة. ظلكَ يكفنني. كشمعة جارتنا تسترق السمع خلف الأبواب، كنحيبِ ابنتها الأرملة، كربابِ مشرد الحارة، مثله مثل أصابعي ترتجف تتلمس كفك فتفكُّ من معصمها الأوردة.
لن تتأخر.. أدري!
لن أتغرب.. تعرفْ!
للأسماء رقية لا تخيب. سريعاً تعود أيها الجندي لأجل مسمياتٍ تتغير بغيابك، لمدنٍ من دونك تسلّم نهارها.