على ذمة أبي الطيب

كتبَ أبو الطيّب الجرفي:

أ  الكثير من الأحاديث والحكايات والأقوال تُنسب إلى (جحا)، وسيان عندي أكان ذلك على سبيل الصدق أم الافتراء، أم كان على سبيل الحقيقة أم المجاز…

ومما نُسب إلى (جحا) قوله:

ذات يوم جاءني شيخ بلدتنا يسألني: مَنْ أهمّ: السلطان أم منتج الحِنْطة..؟ قلت: منتج الحنطة طبعاً، لأنه إذا لم ينتج القمح عانى السلطان (وغيره) من الجوع…

وأنا الذي تَشَوَّفْتُ نجوم الظهر وشموس الليل كنتُ في يوم مضى وانقضى في حالة (رغد وفرح..) مع تلك الخُبْزَة المُدوَّرة التي تدعى الرغيف (ج): أَرْغِفة، ورُغْفان، ورُغُف.

وكنتُ أغنّجه وأداعبه.. وأغنّي له بترجيع وتطريب: (يا بو عكال وكوفية والسمرة العربية..).

كما كنتُ أظنه خطاً أحمرَ.. لا يمكن لأحد أن يتخطاه لقداسته وسرّه (الباتع)… إلى أنْ قالتْ لنا، بلا ريبة، المعطيات على الأرض، والمعطيات داخل بيت الداء وخارجه:

أيها المواطنون الصالحون (المنيّلون بستين نيلة).. أنتم واهمون ومُشتبهون.. السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية، والسياسات العَوْجاء التي تسير على غير هدى في كثير من الأحايين.. والنخب الثرية العَلَقيّة.. والمستغلون والمحتكرون والمتجبّرون والطفيليون الذين انتشروا انتشاراً امبريالياً  أمريكياً وبائياً في كل مكان.. اجتاحوا ألوان قوس قزح اجتياحاً (داعشيّاً) نازياً مجرماً.. وأكلوا اليابس والريان وما بينهما أكلَ الحيوانات الجارحة للفرائس… وطَيَّنوا حياتنا على الوجهين، الخشن والناعم، بالجوع والفقر والحرمان والقهر… وقاموا بليِّ (من فعل لوى..) أعناقنا وظُهورنا و(مارح إحكي كمان حتى ما يجي حدا ويقول : oh my god شو قليل أدب..).

وكان ما كان، نطَّتْ أسعار المواد الغذائية والدوائية والإنشائية، وتلك التي تقضّ على الذكور والإناث مضاجعهم.. ووثبتْ أسعار الألبسة الداخلية والخارجية ولا سيما النسوانية التي تصهل بالمفاتن وجمر الساقين… وتحرّك سعر الخبز.. فنطَّ كل شيء فينينا ووثبَ وتحرّكَ باستثناء ما تحت الحزام (..؟).

واضطرب حجم الرغيف ووزنه وشكله ومذاقه.. واضطربت معه جيوبنا المولولة.. ولم يعد قادراً على إدخال المسرة إلى النفوس… ولم يبقَ أمام المواطنين الصالحين.. إلا السماء والدعاء: اللهمّ أَرْغد رغيفنا.. وأرغدنا معه.. اللهمّ اخلع أنياب (الحيوانات الجارحة)، واقطع نسلهم وأذنابهم، وقصّ مخالبهم.. واقْتصّ لنا منهم (ولكم في القِصاص حياة) (البقرة/179).

ولم يبقَ أمام الشعراء من سبيل سوى نظم الشعر والبكاء على الأطلال:

صغر الرغيفُ كأنّما هو قطعة 

  من قلبِ تاجره وجلد البائعِ

قد كان شيخا للطعام فحاله 

  قد صارَ شبه وليد شهرٍ سابعِ

يا للرغيف ، ويا لهول ضميره 

 قد صارَ أمنية لبطن جائعِ ؟!

وبعد…

أيّها الهَبَّاشون (هَبَشَ).. أيّها الهَبَّارون (هَبَرَ).. أيّها المتجبّرون.. المحتكرون.. اللصوص.. ويا سماسرة الدم السوري والعربي مهما فعلتم ، وسَيْطَرتم.. ومهما سطوتم وتَسَلْطَنْتُم وتَسَرْطنتم… فأنتم ليل حالك زائل.. ونحن، ملح الأرض، باقون بقاء الليل والنهار.. ونحن الزمن الأخضر القادم…

ويا أيّها السادة المُتَجمّلون.. المُتأنّقون.. المدّعون..! نحن (؟) جميلون.. أنيقون.. حضاريون.. ولكن المعدة الخاوية لا تستطيع أن تتأمل جمال الورد وعطره.. والكلام المعسول لا يستطيع، كذلك، أن يملأ البطون الجائعة، الصارخة…

إنّا نحبُّ الوردَ

لكنّا نحبّ القمحَ أكثرْ

ونحبُّ عطرَ الوردِ

لكن السنابل منه أطهرْ…

ب  الثَّعْلَب: حيوان مشهور من الفصيلة الكلبية، ومن رتبة اللواحم.. يمتاز بخطْمِه (الأنف) القصير وبذنبه الكثّ الطويل.. له عدة أنواع والشائع منه الثعلب الأحمر ويُتَّخَذُ من جلده الفِراء.. يعيش الثعلب على الدجاج والأرانب والطيور الصغيرة.. ومن أوصافه الثابتة: الاحتيال، والمكر، والخديعة، والمراوغة، والجُبن… ويُضْرَبُ المثلُ به في كل ذلك؛ أي: يُوْصَفُ به، فنقول: رجل ثَعْلب وثُعْلُبان ، وامرأة ثَعْلَبة وثُعَالَة.. وتَثَعْلَبَ فلان ( للذكر والأنثى)؛ أي: احتال، ومكر، وخدع، وراغ ، وجَبُن.. كالثعلب. وتَثَعْلَبَتْ حالتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعاطفية التراجيدية الراهنة؛ أي: كثرت فيها الثعالب والثعلبات…

الشاعر أحمد شوقي، الذي ترك لنا عبر ديوانه ((الشوقيات)) الكثير من الحكايات الشعرية التي صاغها على ألسنة الحيوان والطير.. له في هذا المقام قصيدة طريفة، بديعة عنوانها (الديك والثعلب) لا تغيب دلالاتها العميقة عن كل لَبيب ولَبيبة:

برز الثعلب يوما   في ثياب الواعظينا

فمشى في الأرض يهدي

ويسبُّ الماكرينا

ويقول الحمد لله

إله   العالمينا

يا عباد الله توبوا 

  فهو كهف التائبينا

فأتى الديك رسولٌ

   من إمام الناسكينا

عرض الأمر عليه   وهو يرجو أنْ يلينا

فأجاب الديك عذرا

  يا أضل المهتدينا

بلّغ الثعلب عنّي 

 عن جدودي الصالحينا

إنّهم قالوا، وخيرُ

 القول قول العارفينا

مخطئٌ مَنْ ظنَّ يوما 

 أن للثعلب  دينا

أجاد الشاعر شوقي وصدق.. ومن يعتقد، أو يظنّ أنّ للثعلب، على الصعيدين الحيواني والبشري، (ديناً) لهو مُشتبه وعلى ضلال مبين…

يرجى الاطلاع، والتيقّن مما كُتب أعلاه، والسلام على من اهْتَدى…

العدد 1140 - 22/01/2025