سورية.. اليوم وغداً

بعد أن افتتح الرفيق حنين نمر، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الموحد، المعرض التوثيقي لتاريخ الحزب، الذي يتوج به الحزب احتفالاته بالذكرى الـ92 للتأسيس، وذلك يوم الاثنين 26/12/2016 في المركز الثقافي العربي بدمشق- أبو رمانة، ألقى، في قاعة المحاضرات بالمركز، محاضرة بعنوان ( سورية اليوم وغداًً)، هنا النص الكامل لها: 

يتّفقُ معظمُ المحلّلينَ السياسيّينَ في العالم على أن الحدثَ السوريَّ هو واحدٌ من أهمِّ الأحداثِ الدوليةِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانية، وأكثرِها تعقيداً وفرادةً. فمن حيثُ الحروبُ، فهو يحتوي على عناصرَ من الحروب النظامية، وعناصرَ من حروب المدن والعصابات. ومن حيث التدخلاتُ الخارجيةُ والأجنبية، فقد اشترك فيه أكثر من 100 دولة، أمّا من حيث عددُ المتدخّلين الأجانب فيقدّر عددهم بأكثر من 250 ألفاً من الذين قاتلوا لفترة ما في بلادنا ثم غادروها أو قُتلوا فيها، فضلاً عن أعدادٍ كبيرة من المشاركين السوريين. أما عددُ الشهداءِ فيقدّرُ بعشرات الألوف.

 وفيما يتعلق بالجانب الإعلامي من الحرب على بلادنا، فيكفي القول إن حوالي 100 محطةٍ تلفزيونية في العالم قد جُنِّدت لتلفيق الأكاذيب وصنع الفبركات الإعلامية، وجاء في بعض الإحصائيات أن كلفةَ الحملةِ الإعلامية هذه وصلت إلى 5 مليارات دولار شهرياً تنفَقُ من بترول العرب، لقتلِ العرب.

لقد جرى تسميمُ الجوِّ الفكري في البلاد وتحوّلَ إلى جوٍّ مسمومٍ بالطائفية، ومن كثرة ترداد أسماء الطوائف والمذاهب أصبح ذلك الأمرُ عادةً طبيعية تُردّد أحياناً عن حسن نية من قبل بعض الذين لم يستوعبوا بعد عمقَ وذكاءَ المخططِ التآمريِّ الذي واجهته بلادُنا. وقد انقلب الصراعُ في المنطقة- حسب الغرب وأعوانه- إلى صراع سنّيّ- شيعيّ، أي ضدَّ إيران، بدلاً من الصراع العربي- الإسرائيلي، وانقلبت إسرائيل عند السعودية إلى صديقةٍ للأعراب وليست عدوةً لهم. وتجرّأَ بعضُ المعارضين إلى إشهار تعاونهم مع إسرائيل التي قدمت لهم ما يطلبون من تعاونٍ لوجستيٍّ وطبيّ وبشريّ وتسليحيّ.

ورافق كلَّ هذا السمِّ الفكريِّ الذي اجتاح البلاد، موجةٌ من التحريض والمبالغات الكاذبة في سرد الوقائع والتوتر النفسي الذي صاحبها، إضافة إلى بوادر انقسام المجتمع انقساماً مشوّهاً على أساس طائفي أو مذهبي، رغم أن بلادنا لم تعرف عبر تاريخها الطويل هذا النوع من الانقسام، والأملُ معقودٌ اليوم على الوطنيين السوريين بكل اتجاهاتهم السياسية وميولهم الفكرية، وانتمائهم الاجتماعيّ، للتغلّب على هذه النزعات وإعادة الاعتبار للمفاهيم والقيم الوطنية والقومية والأممية والتقدمية والديمقراطية.

أما ما رافق كل ذلك من خراب اقتصادي وتنموي وبنيوي فهو يعطي فكرة أوضح عن الهدف البعيد الذي رمى إليه مخطط التآمر على البلاد.

فقد أطيح أولاًً بالبنى التحتية المؤسسة لكل اقتصاد “كمحطات توليد الكهرباء والري والسدود والاتصالات والطرقات”، وأصبحنا نستورد القمح والشعير بدلاً من تصديرهما، وتراجع نهج الاكتفاء الذاتي الغذائي، وجعلونا على حافة الهاوية الغذائية، وجرى ضغط شديد على قطاع النقل الداخلي، وارتفع معدل البطالة حتى زاد عن الـ 40%، وضغطت الأرياف على المدن، فاختل التوازن الديمغرافي نتيجة الهجرة الكثيفة إلى الداخل، وضعُف المتاح من قوة العمل الماهرة. إن ظاهرة الهجرة الشديدة للسوريين إلى الخارج تعد واحدة من أخطر الظواهر التي ولّدتها هذه الحرب المجنونة على سورية، والتي تمثل جوهر المخطط الذي رُسم لها. إن تفريغ البلاد من سكانها، على الأخصّ الأكفاء منهم، هو المبتغى النهائي له.

لقد اختل ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وارتفعت نسبة التضخم النقدي إلى نحو 900%، أصابت من المواطنين مقتلاًً وتحوّل ذوو الدخل المحدود إلى شبه متسولين أمام جشع كبار الرأسماليين الاحتكاريين . لقد توقفت معظم المعامل عن العمل أو هرّبت وسرقت إلى تركيا، وتوقف كل تطور صناعي في البلاد.

إن مجموع النتائج الكارثية لهذا العدوان على سورية، الذي يقدّر بـ 300 مليار دولار، يشير إلى أن المستهدف ليس الاقتصاد السوري اليوم، بل بنية الاقتصاد السوري وبنية الدولة السورية ككل، فهم يريدون تجزئة وتفتيت مقومات الدولة لكي لا يبقى بعد الآن دولة، وإذا بقي من الدولة السورية اسمها، فستكون دولةً ممسوخة بشكل ولاية تابعة لجهة ما، تصطف إلى جانب الأجزاء العربية الأخرى المفتتة ليكونوا كالأجراء أمام إسرائيل التي ستتحول سيدة منطقة الشرق الأوسط تحت رعاية الراعي الأمريكي الأكبر.

وإذ لم يتح المجال لمؤامرة التقسيم أن تمرّ، فستكون سورية القادمة التي يريدون، هي جمهورية موز جديدة أشدّ تبعيةً وعمالة للغرب وإسرائيل، وأكثر ضعفاً أمام زحف الشركات الرأسمالية العالمية بالشروط الإلحاقية التي تفرضها، وحامية الحمى لإسرائيل والمخطط الصهيوني البعيد المدى، وما على الشعب الفلسطيني سوى أن يرحل ويتوزع ويبقى مشرداً في أرجاء العالم بلا وطن وبلا هوية يستجدي الذين اقتلعوه من أرضه بالأساس.

من السذاجة القول بعد كل ما عشناه ونعيشه طوال السنوات الست الماضية إن ما جرى كان حدثاً عفوياً، وردّ فعلٍ تطوّر إلى ما تطور إليه، فالشحن الديني المتطرف والتحريض المذهبي المسبق وتوريد الأسلحة إلى البلاد قبل اندلاع الشرارة الأولى للأحداث، والتدخل الذي مارسته أمريكا ومعظم بلدان أوربا بالسلاح والرجال وبالسياسة والإعلام وبفظائع الإرهابيين الذين قاموا بمجازر دموية بشعة بحق شعبنا وبحق تاريخنا وحضارتنا الممتدة عبر آلاف السنين، كل ذلك هل كان يمكن أن يَحْدُثَ عفوياً ودون أي تحضير مسبق؟ ولماذا يحاول البعض استبعاد صفة التخطيط المسبق عن الأحداث التي دارت؟ وهل يقصدون بذلك أنه ليس من طبع الأمريكان والفرنسيين والإنكليز والأتراك والسعوديين والقطريين أن يحيكوا المؤامرات على الشعوب؟ إذاً، من الذي كان يحيك المؤامرات الأمريكية على سورية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟ أليسوا هم أنفسهم المسؤولين عما حصل في سورية في هذه الأيام؟؟…

لقد حدد حزبنا العوامل التي أثرت في حصول هذه الأزمة ووصفها بأنها عوامل مركبة أساسها إزاحة سورية كعقبة جيوسياسية أمام المخططات الامبريالية بشكل رئيسي، ولكن هناك عوامل أخرى ساعدت على تكوين حاضنة للفئات الرجعية كالوضع الاجتماعي وعلاقة الحكومات بالناس الأمر الذي كوّن تربة ملائمة استغلتها القوى المعادية خارجياً وداخلياً.

لقد قاوم الشعب السوري ودولته الوطنية وجيشه الباسل، وبمعونة أصدقائه وحلفائه المخلصين (روسيا- إيران- الصين – المقاومة)، قاوموا هذا الغزو الهمجي الكبير، والمحطة الأساسية التي تم اجتيازها بأمان هي محطة تحرير حلب التي ستجعل من الانتصار النهائي على الإرهاب في بلادنا أمراً ليس بعيد المدى.

ولكن في الوقت نفسه نحن أمام تحدٍّ كبير، وهو تحدي إعادة بناء سورية من جديد، ومعركة حشد القوى الشعبية والمستنيرة لتكوين جبهة شعبية ثقافية، لمواجهة الفكر الظلامي الذي أصبح أداةَ توحّش موظّفة في خدمة الإمبريالية.

 لقد دلت تجارب السنوات الماضية أن علاقة الحكومات المتعاقبة بالجماهير تحتاج إلى إعادة نظر، وإلى ردم الهوة بينها وبين الناس والقوى والأحزاب السياسية، وأن الجماهير مستعدة للدفاع عن الوطن، بل هي ساهمت في طرد الغزاة والإرهاب عملياً، وهي مستعدة أيضاً للتقشف كما هي الحال عملياً، لكنها تريد من الحكومة اجتثاث الفئات الطفيلية والفاسدة، كما تريد أيضاً انفتاحاً سياسياً داخلياً يخدم السياسة الوطنية، ويوسع قاعدة المشاركة في إدارة شؤون البلاد.

وإننا إذ نعرض الآن بعض العناوين الرئيسية لمشروع الإنهاض بسورية كمقترح من قبلنا، نأمل من القوى السياسية الوطنية كلها- باستثناء الإرهابيين- وضع رؤيتهم لسورية المستقبل، لفتح باب الحوار الواسع السوري- السوري.

1- رؤيتنا في الميدان الداخلي و الدولي:

* استمرار العمل لتحرير باقي الأراضي السورية التي يدنسها الإرهابيون وتحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، ومتابعة الجهود للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية يعكس ميزان القوى الجديد.

* تأييد الجهود التي تقوم بها الدول المحبة للسلام في العالم، لإقامة توازن جديد للقوى تنتفي معه الهيمنة على العالم.

* عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

* عدم الانخراط في محاور إقليمية أو دولية لا تخدم المصلحة السورية.

* تقوية العلاقات مع القوى الشعبية العربية، والتفريق بينها وبين الأنظمة العربية التي تآمرت على سورية.

* استمرار الموقف المبدئي الذي تتخذه سورية من قضية الشعب الفلسطيني العادلة.

* استمرار الوقوف ضد أي نزعة انفصالية أو تقسيمية في أي بلد عربي نظراً لتشابك التركيب النسيجي العربي، والنظر بروح عصرية منفتحة إلى قضية الأقليات في الوطن العربي وإحقاق حقوقها الثقافية، مع تأكيد الروابط الأخوية التي تجمع الجماهير الكردية والجماهير العربية، ومحاربة النزعة العنصرية أينما كانت.

2- في مجال الحياة السياسية العامة:

نصّ الدستورُ الجديد على أن سورية تطبّق مبادئ المجتمع الديمقراطي التعددي، وهذا إنجاز كبير، لكنه لم يطبَّق حتى الآن، لا من حيث الروحية والعقلية ولا من حيث المضمون، وقد يكون للحرب أثر سلبي في ذلك، ولكن المرحلة القادمة يجب أن تشهد عملية تطبيق القوانين التي تكفل ترجمة الدستور إلى واقع جديد للبلاد.

* يجب البحث في التعديلات الدستورية الممكنة، حول شكل نظام الحكم وحول مواد أخرى في الدستور، ونحن نرى من حيث المبدأ أن النظام الأكثر ملاءمة لظروف سورية هو النظام المختلط الذي يجمع ما بين محاسن النظام الرئاسي، ومحاسن النظام البرلماني.

* تعديل قوانين الأحزاب والإعلام والإدارة المحلية وفقاً للدستور الجديد.

* تمكين الجبهة الوطنية التقدمية من القيام بدورها السياسي في حشد قوى الشعب ورفع مستوى الوعي السياسي لديه.

* دعم المطالب المحقة للمنظمات الشعبية والنقابات المهنية التي تتكرر كل مؤتمر وإعطاؤها مزيداً من الاستقلالية وحرية التصرف.

* تشجيع واحترام استقلالية هيئات المجتمع المدني (بالمفهوم الوطني) التي لها دور كبير في القيام بالأنشطة الاجتماعية والثقافية لأعداد هائلة من المواطنين.

* إعلاء شأن القيم الأخلاقية والمثل الوطنية نقيضاً لثقافة الاستهلاك الترفيّ.

* النظر إلى الفساد كآفة اجتماعية واقتصادية بل وسياسية أيضاً، ويجب فضحه واتخاذ التدابير العملية والقانونية لمكافحته.

* هناك قضايا فكرية وثقافية عديدة أفرزتها الأزمة، وأهمّها تشوش الوعي لدى المواطن، الأمر الذي جعل خياراته محدودة وتتراوح ما بين الإيمان المشوه الكاذب الذي تجلى بالتيار الوهابي التكفيري، والردود الغيبية التي صدرت عن التيارات الدينية والمعارضة لها.

3- في الاقتصاد السوري:

* نحن مع الاقتصاد التعددي القائم على قيادة الدولة للعملية الاقتصادية، بمشاركة الرساميل الوطنية المنتجة، ونرى أن إعادة إعمار ما خربه الغزو الإرهابي يتطلب خطة حكومية مركزية،تساهم في رسمها وتنفيذها جميع الرساميل الوطنية، حسب مبدأ الأولويات.

* يبقى الأساس هو دور الدولة القيادي والرعائي، وحاجتها إلى التمويل تجعل من الضروري لها أن تجذب الرساميل السورية المهاجرة.

* القطاع العام هو المحور الأساسي لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تكون مستدامة وذات طابع اجتماعي في صالح الطبقات الشعبية، وأن تزداد حصة العمل على حساب حصة الرأسمال في توزيع الدخل الوطني.

* التأكيد على متابعة التوجه الذي سارت عليه البلاد في دعم القطاع العام الإنشائي بصفته القطاع الوحيد الذي يمكن أن يحافظ على البنى التحتية ويطورها حسب الحاجة إليها.

* تجاوز العقبات البيروقراطية التي تعرقل عمل الصناعة الوطنية الخاصة بشكل سريع.

* عدم التفريط بملكية القطاع العام للشركات المتعثرة وإيجاد سبل عمل لتجنيبها الخسارة.

* تجنّبُ الاعتماد على الشركات المتعددة الجنسية أو الشركات التي تقوم بأنشطة ريعية وتطرح نفسها بديلاً عن الشركات العامة.

* التمسُّكُ بدعم الدولة لأسعار سلع الاستهلاك الشعبي كالخبز والكهرباء وبعض المشتقات النفطية.

العدد 1140 - 22/01/2025