هذه الحقيقة.. وحفلة المزاح تلك!
كان ذلك أيام زمان.. وأيام زمان كانت قبل أكثر من عشرة أعوام..
لم يكن في بيتنا سوى الأشياء الضرورية للحياة، فأثاث غرفة ما يمكن أن يجمع في زاوية منها ويعاد ترتيبه بلحظات، وتركيبة البيت القديم الذي كنا فيه، كانت تستوعب مثل هذه التغييرات في حياة الناس دون أن تترك أثراً كبيراً!
جاءت الفكرة، عندما سافر كل من في البيت إلى اللاذقية، وبقيت أنا لضرورات العمل على أن ألحق بهم عندما تسنح الفرصة. فالصيف كان حاراً، وكانت اللاذقية تحفل بالمهرجانات الصيفية في تلك الأيام الجميلة، وكان البحر يعجّ بالمصطافين الذين ازدحمت بهم الفنادق والشاليهات..
قررت أنا وصديقي أن نعيد ترتيب البيت، وسريعاً تغيرت ملامحه. وضعنا التلفزيون في غرفة الطعام، ووضعنا البراد في غرفة النوم، ووضعنا خزانة الملابس في المطبخ، وجلسنا في أجواء التغييرات الجديدة نضحك، فصارت الحركة في البيت مقلوبة: تذهب إلى المطبخ لترتدي ثيابك، وتذهب إلى غرفة النوم لتأكل وتذهب إلى غرفة الطعام لتشاهد آخر الأخبار، أما غرفة الجلوس، فوضعنا فيها طاولة السفرة!
تغير كل شيء في البيت. لكن المشاعر الحقيقية لم تتغير!
صديقي الذي كان معي وقتذاك سافر. لم أعد أراه منذ زمن سنوات، سافر في شأن ما وانقطعت أخباره عني. وجاءت الحرب لتقطع ما بقي من أخبار قليلة تتسرب بين حين وآخر من أصدقاء مشتركين.. قبل أسابيع التقيته. وبطبيعة الحال احتضنته بترحاب بالغ، وكان عليّ أن أحدّق في ملامحه، فما الذي تغير فيه، ولماذا يبدو عجوزاً رغم أن عمره في منتصف الخمسينيات. كان الشيب قد غزا رأسه، وكان وجهه رمادي اللون. كالح النظرات، وكأنه خرج من تحت الأنقاض..
سألته: ما الذي حصل؟ أين كنت؟
وكان جوابه مقتضباً يختزل المعاني بكلمات قليلة: سافرت، وليتني لم أعد!
ثم قال: لا أصدق!
ثم أضاف: هو كابوس؟!
أحسست أن أشياء كثيرة وقعت معه، وأن عودته لم تكن موفقة، وقد غيرت الحرب كل شيء، ولكنه عاد وشرح لي كل شيء:
قال لي صديقي: أتذكر ذلك اليوم الذي غيرنا فيه ملامح بيتكم ونقلنا الأشياء بعكس ماكانت عليه؟ فقلت: يوم سافر الأهل إلى اللاذقية وبقيت هنا في دمشق؟
تذكرت، وهممت بإطلاق ضحكة على تلك الذكريات. لكني وجدت صديقي وقد تهدّل كتفاه وضاقت عيناه وبدا مهموماً أكثر من قبل، فسألته: وما الذي دعاك لتذكر ذلك المزاح مع الأمكنة والأشياء؟
فردّ صديقي:
هذا ما حصل: عدت إلى بيتي في حلب. دخلت إلى الشارع الذي أسكن فيه. فإذا أنا أمام حقيقة لا تُصدَّق. تغير كل شيء في المكان. الأبنية من حولنا شبه مدمرة ومحروقة. قالوا لي إنها قُصفت بمدافع جهنم وبصواريخ. أما بيتي فبقي على الهيكل. كل شيء محروق فيه.. إلا الجدران.. دخلت إليه أحاول أن أتذكر التفاصيل الجميلة فيه: لم تكن الخزانة كما تركتها. ولم تكن النافذة تكشف المدى. غرفة الطعام غدت غرفة أشباح، وغرفة النوم صار اسمها غرفة الكوابيس!
رأيته محنيّ الظهر.. حزيناً.. يكابر في أن يكون طبيعياً، وفجأة رفع ظهره المحني وقال، وهو يرفع رأسه بإصرار: سأعيد كل شيء كما كان، سأعيد كل شيء كما كان، وأرجو أن لا يكون الإنسان فينا قد تغيّر!