لماذا يسود العنف مجتمعاتنا اليوم!؟
إيمان أحمد ونوس:
مارس البشر العنف منذ بدء الخليقة، وتُعتبر حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل النواة الأولى لتبنّي الإنسان مفهوم العنف وسيلة إمّا للدفاع عن النفس أو الممتلكات، أو حتى المعتقدات ووجهات النظر، وإمّا للسطو والسيطرة على ممتلكات الآخرين أو فرض وجهات نظر وسياسات معيّنة عليهم. وهو يتجه دوماً من القوي باتجاه الضعيف الذي قد يكون فرداً أو منظمات أو دولاً.
والعنف بشكل عام هو الاستخدام المقصود أو غير المقصود للقوة أو التهديد بها ضدّ الآخرين بما يؤدي إلى أذى دائم، مؤقت أو مميت.
فكيف يتمثّل الإنسان مفهوم العنف كثقافة تبدو طبيعية في حياته وعلاقته بمحيطه العام والخاص؟
دور الأسرة: للأسرة التي تُمثّل الصورة المُصغّرة عن القبيلة أو العشيرة التي تسود المجتمعات العربية والشرقية دور أساسي وهام في نشأة العنف وتعزيزه في حياة الفرد من خلال أساليب التربية التي ينتهجها الأبوان اللذان إذا ما تمثّلا ثقافة السلطة والاستبداد والعنف والتمييز خلال تربيتهما لأولادهما، ستكون هناك سلطات استبدادية تراتبية في الأسرة ابتداءً من الأب تجاه الأم والأولاد وانتهاءً بالأخ الأكبر وسلطته على الأصغر والأنثى حتى لو كانت أكبر(سيادة مفهوم العنف والتمييز ضدّ المرأة)، وهذا ما يخلق أفراداً سلطويين استبداديين وعنيفين في المجتمع يمارسون الممارسات ذاتها التي كانوا يُعانون منها في أُسرهم سابقاً.
دور المدرسة: تُعتبر المدرسة العالم الثاني للطفل خلال مراحل نموه واكتسابه المعرفة وثقافة المجتمع، باعتبارها المكان الآخر بعد الأسرة الذي يغرس في شخصية الطفل مفاهيم وقيماً وأخلاقيات معيّنة. فإذا ما كانت تلك المدرسة بإدارتها وكادرها التعليمي والتربوي قائمة على التسلّط والقسوة والعنف، لاسيما حين تُعزّز بشكل مباشر سلطوية واستبدادية التربية الأسرية وتكون استمراراً لها في نظر الطفل الذي سيتمثّل تلك السلطوية والعنف بشكل غير مباشر، سنكون مستقبلاً أمام أجيال متلاحقة تتبنّى منظومة تفكير وتعامل سلطوية- عنفية.
ولا يمكننا تجاهل دور المناهج التعليمية والتربوية الأساسي في تعزيز أو إلغاء تلك الثقافة من خلال المواد العلمية وطرائق التدريس والتعامل مع الطلاب، فطالما كانت تلك المناهج والطرائق قائمة على أساس الحشو والتلقين قسراً دون اعتبار لشخصية وميول وعقل الطفل- الطالب، طالما كانت النتائج غير إيجابية. وباعتبار أن مناهجنا التعليمية بشكل عام قائمة على تلك القاعدة، فإننا للأسف أمام أفراد تابعين يفتقدون روح المبادرة الحرّة والمسؤولة، وبالتالي تبقى أجيالنا غير فاعلة، وتسير بشكل اعتباطي في الحياة، غير قادرة على اتخاذ القرارات بعيداً عن سلطة الآخر واستبداده الذي ستتمثّله لاحقاً إذا ما أُتيحت لها الظروف الملائمة تربوياً واجتماعياً ومهنياً.
دور السلطة الدينية: باعتبار الدين العصب الأساسي والحسّاس في حياة الإنسان، فإن لتلك السلطة الأثر الكبير في خلق أو إلغاء ثقافة الاستبداد والعنف، ولأن رجال الدين يمتلكون الحق في توجيه الفرد بأي اتجاه، فإنهم بذلك يسعون جاهدين لتقييد وتحجيم فكر الإنسان ضمن أطر دينية محدودة تعتبر أن هذا الدين أو تلك الطائفة هو الأفضل على الإطلاق، وبأنه المثل الأعلى في المجتمع، وكل ما عدا ذلك مرفوض وربما كفر وإلحاد. ولأن مخالفة رجال الدين وتعاليمهم تُعتبر الخطيئة الكبرى التي قد تدخل في مفهوم التكفير للتابعين أنفسهم، فإن هذه السلطة تغرس في نفوس تابعيها ثقافة التطرّف، وبالتالي تبنّي مفهوم رفض الآخر مهما كان قريباً، وتبنّي منظومة عنفيه ضدّه في وقت ما إن استدعت الظروف ذلك. وللأسف هذا ما هو حاصل اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية ما أدى إلى تشتيت المجتمع وجهوده التي يجب أن تتجه نحو تطوير الفرد والتعايش بين الجميع على أساس المواطنة دون النظر للاعتبارات والانتماءات الأخرى.
دور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني: تجتذب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني شرائح واسعة من الشباب الطامح للحرية والقيم المثالية التي تتفق وشعارات ومبادئ تلك الأحزاب والمنظمات التي يتوقع الشباب أنهم من خلالها قادرون على تحقيق ما حرمتهم منها السلطة الأبوية- الأسرية والعشائرية والدينية، غير مُدركين أن تلك الأحزاب والمنظمات المدنية ما هي إلاّ صورة مُصغّرة عن المجتمع الموجودة فيه بقيمها وتعاليمها بشكل عام، لأن القيّمين عليها هم أبناء ذلك المجتمع، وبالتالي لا يمكنهم إلاّ أن يحملوا سماته وثقافته التي تشرّبوها بشكل مباشر أو غير مباشر، بغضِّ النظر عن القيم السياسية والفكرية التي يتبنّونها مهما كانت تحمل ملامح الديمقراطية والعدالة والمساواة، إضافة إلى أن معظم هذه الأحزاب تتّخذ من المركزية والشمولية نهجاً عاماً لا تحيد عنه، مُعزّزة تقديس القائد باعتباره الملهم والمفكّر الأوحد في هذه الأحزاب والتنظيمات التي تُلغي بذلك دور وتأثير الأفراد الموجودين في بوتقتها، وهذا ما يجعلها رافداً آخر من روافد الإقصاء والتعصّب والسلطوية الاستبدادية بشكل مباشر أو غير مباشر، ممّا يمكن اعتباره شكلاً من أشكال تقييد وتهميش حرية الفرد وفكره، وشكلاً من ممارسة العنف غير المرئي أو الملموس في حياة الأفراد.
دور الأنظمة والسلطات السياسية: بالطبع تتكوّن النظم الحاكمة من أبناء المجتمع، وبالتالي لا بدّ أن تحمل سماته ومنظومة قيمه ومفاهيمه بكل أبعادها، فهي من خلال أجهزتها وقنواتها تنتهج نهجاً قائماً على إبقاء المجتمع في حالة من الخمول الفكري والعطالة السياسة من أجل الحفاظ على مواقعها ومكتسباتها التي تعتبرها حقاً ربما إلهياً لا يجوز لأحد التفكير في معارضته أو حتى توجيه النقد في أدنى حدوده، وذلك من خلال خطاب سياسي يرمي إلى تصوير الشعب على أنه مصدر السلطات والتشريعات، وأن له الحق في الحياة الكريمة الحرّة في ذات الوقت الذي تسوده الاعتقالات وكمِّ الأفواه ضدّ المناوئين لتلك الأنظمة، أو حتى ضدّ الذين يسعون للتغيير من خلال قوانين وتشريعات تضمن حقوق الجميع عبر دساتير ديمقراطية- تعددية. وهذا بالطبع ما يُبقي على المجتمع أو الشعب أفراداً تابعين يُعشّش الخوف في أنفاسهم كيفما تحركوا خشية استبداد وعنف تلك الأنظمة، وهذا بدوره يخلق حتى بين المعارضة أشخاصاً إما تابعين أو خانعين، وإما سلطويين استبداديين يرفضون الرأي الآخر ويكفّرونه أو يخوّنونه. وطبعاً يتم كل هذا من خلال وضع دساتير وسنِّ تشريعات وقوانين تتوافق ومصالح تلك الأنظمة بعيداً عن أيّ شكل من أشكال دولة المواطنة والقانون، وبعيداً عن كرامة وحرية المواطن والمجتمع.
فبعد كل هذا، هل يحق لنا أن نتساءل لماذا يسود العنف مجتمعاتنا اليوم!؟