أكذوبة السلام.. أساس البقاء هو الصراع
د. عبادة دعدوش:
في عالم يُرفع فيه شعار (السلام) على أنه أعلى قيمة إنسانية، نجد أن الواقع يروي قصة أخرى، قصة تحمل في طياتها صراعاً يتجدّد باستمرار. يبدو أن السلام، كما تُروّج له الشعارات، هو مجرّد أكذوبة، بينما يبقى الصراع هو القاعدة الأساسية لبقاء الشعوب والأمم. فعبر العصور، كانت الحروب تُحقّق مصالح سياسية واقتصادية، ممّا يُظهر أن هذه الأكذوبة تُخفي وراءها حقائق مؤلمة عن طبيعة الإنسان ومصالحه.
السلام كخيار مُطلق: عند النظر في تاريخ البشرية، يمكن القول إن صراع البقاء هو ما يقود حركة التاريخ. فكل معاهدة، وكل اتفاقية سلام، سرعان ما تتجه نحو الفشل عندما تتعارض مع المصالح الأساسية. يُعزّز هذا الواقع فكرة أن السلام ليس خياراً دائماً، بل يتأرجح بين كونه فكرة مثالية وتجارة في طواحين الحرب.
طالما كانت الدول تُخوض صراعات للحصول على الهيمنة الثروات، والسيطرة على الموارد. ولذلك، لا تُعتبر الحروب مجرّد عنفٍ مُنظّم، بل هي تجسيدٌ لسياسات الدول التي تسعى لتحقيق مكاسبها في عالم صعب مليء بالتحديات. وأكبر دليل على أنه لا يوجد مكان للسلام، وليس هناك تطبيق حقيقي لمن يدّعون أنهم مُطبّقو القانون الدولي هو هذه الحرب على غزة والأراضي الفلسطينية. فمنذ احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين عانت الأراضي الفلسطينية من ويلات الحروب التي يُشرّع جرائمه فيها الاحتلال تحت مظلة (الحق في الدفاع عن النفس) ولتحقيق مصالح معينة، بدأت الحروب تتفجّر، تاركة وراءها دماراً وخراباً وأعداداً هائلةً من الضحايا.
مع كل غارة، ومع كل صاروخ، يتجلّى بوضوح كيف يتحوّل العقل البشري إلى آلة للحرب، مركّزاً على السيطرة والخوف بدلاً من الأمل والسلام. المؤلم في الأمر هو أن المدنيين، الذين لا ذنب لهم، هم من يتحمّلون تبعات هذه السياسات، إذ تُدمّر منازلهم وتُحرم أجيال كاملة من حقها في الحياة الكريمة.
سلامٌ مؤقّت وحروبٌ مُتجدّدة: تتوالى الجولات ما بين السلام المزعوم وحرب مُتجدّدة هنا وهناك. تتفاوض الأطراف، تُبرم الاتفاقيات، لكن سرعان ما تتلاشى الآمال عندما تُفرض النزاعات من جديد. هذا هو الحل على مدار العصور.؟! إنني أشكُّ في أن نجد زمناً عبر التاريخ لا صراع فيه ولا حرب، وهذا التكرار يُظهر لنا حقيقةً أكذوبة السلام، فهي ليست مُجرّد مقولة تُرفع في المحافل الدولية، بل هي أسلوب للبقاء تحت وطأة الصراع، والانقضاض على الفرص المُتاحة حينما تُسهّل الظروف.
الميول البشري للصراع: إن الأساس البشري للصراع يُظهر رغبة الإنسان في السيطرة، في الهيمنة والسطو، فعلى الرغم من التطورات التي شهدتها الإنسانية على مرِّ العصور، لا تزال النزاعات تحوم حولنا كظلٍّ لا يفارقنا. وهذا يؤكّد أن أساس الصراع سيبقى مُنتصراً على جميع الأدوات السلمية، ممّا يجعل استعادة السلام مهمّة شاقّة.
ولأن العالم يحتفل في الحادي والعشرين من شهر أيلول باليوم العالمي للسلام، علينا الوقوف لحظةً للتأمّل فيما يحدث بالفعل. فالأكاذيب لا تُنحي وجود الصراعات، بل تُعقّد الأمور وتجعل الخيار بين الحرب والسلام خياراً صعباً في ظلِّ وجود قوى تُحرّكها مصالحها الخاصة. وعلينا أن نتساءل: كيف يمكن للإنسانية أن تخطو فعلاً نحو سلام حقيقي؟؟! قد يكون الجواب في تعزيز ثقافة الحوار، والتفاهم، والاعتراف بالمصالح الجماعية بدلاً من الفردية، لكن الأهم من ذلك هو الاعتراف بأن السلام لا يأتي بالأقوال، بل بالأفعال الحقيقية التي تُمحصها الحقوق والكرامة. إن مصيرنا كمجتمع إنساني يعتمد على قدرتنا على تجاوز الأكاذيب وتحقيق السلام الحقيقي، بعيداً عن الأوهام التي تُزيّن بها الواقع المرير.