الجهل والخوف نار تحت رماد الكراهية والعنف
إيمان أحمد ونوس:
لفتني قول لابن رشد يُظهر من خلاله أن الجهل كان أساس الحياة والداء في حياتنا عموماً، وهو: (الجهل يقود الى الخوف، الخوف يقود الى الكراهية، والكراهية تقود الى العنف).
فإذا ما نظرنا إلى مسار حياة البشرية منذ انطلاقتها، نجد أن الإنسان، منذ النشوء الأول، عاش لحظات الخوف، الخوف من المجهول ومن كل طارئ وجديد بسبب جهله لما كان يواجهه من ظواهر لم يعرف ماهيتها وأسبابها وما تُخلّفه من نتائج. حتى بعد أن ارتقى تكوينه البيولوجي والنفسي والعقلي، استمر هذا الخوف رفيقاً لاكتشافاته الأولى إن كان في مجال قوانين الطبيعة، أم في مجال القوانين الإنسانية (اجتماعية، سياسية، أخلاقية، …الخ) وهذا ما كان في كثير من الأحيان يُعيق تفكيره ويؤطّر تطلعاته واكتشافه للحقائق.
ففي مرحلة ما، عبد الشمس والنار بسبب جهله لهما وخوفه منهما، وتتالت سلسلة المخاوف التي عزّزتها بعض الأساطير، ومن ثم اللاهوت والأعراف الاجتماعية، وصار الخوف الأكبر مرافقاً لظهور أنظمة الحكم مع بدء التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وتأسيس نظام الدولة الذي عرف مراحل مُتعّددة (الرق، الإقطاع، الرأسمالية…) جرى فيها استعباد الإنسان ومحاصرة حريته التي فُطر عليها.
بديهي أن يقود هذا الجهل إلى الخوف بشكل عام، والخوف بحدِّ ذاته يعمل على زعزعة البنية النفسية والعقلية للفرد، ويشلُّ قدرته على التفكير المنطقي والسليم، فيأسره داخل قوقعة الانغلاق على الذات، وبالتالي التخلف عن محيطه.
وبناءً على ما قاله ابن رشد، يُمكننا تتبّع مآلات الجهل وانعكاسه على الفرد والمجتمع. فمثلاً جهل الآباء بأسس التربية الصحيحة يقودهم لإخافة الأبناء كي يرضخوا لما يُراد منهم، وإلاَ فالعقاب سيكون كبيراً إن تجرأ أحدهم على المخالفة، دون النظر لما سيُخلّفه هذا الخوف على شخصية الأبناء ونفسيتهم. وليس ببعيد عن هذا خوف الأنثى من المجتمع- الذكر- بسبب الموروث القيمي والاجتماعي السائد والغارق بعضه في جهل وتخلّف لا يتوافق والتطورات الحاصلة على منظومة العلوم والحقوق الساعية لانتشال الإنسان من قاع هذا الجهل والتخلّف.
لا شكّ أن جهل الإنسان بمسألة الحقوق والعلوم والمعرفة بشكل عام يُعزّز استبداد مختلف السلطات التي تتحكّم في حياة الفرد، استبداد قد يقود إلى عواقب وخيمة على الجميع، ففي الحياة الأسرية والمجتمعية يعمل الخوف من تسلّط الأبوين والمجتمع على تعزيز رفض الأبناء للكثير من المفاهيم والقيم المفروضة بشكل ضمني أو مباشر، وهذا الرفض حين يُقابل بالقسوة لا بدّ سيقود إلى تملّك مشاعر الكراهية غير المُعلنة من قبل الأبناء تجاه الآباء بدايةً، تتحوّل عند البعض منهم إلى سلوكيات عدوانية وعنيفة أحياناً.
إن ما ينطبق على الحياة الأسرية والمجتمعية ينطبق كذلك على أنظمة الحكم، ففي العديد من الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية/ فردية، يعمُّ الخوف وينتشر الفساد الذي يغتال العدالة والقوانين لمصلحة الأقوى، ممّا يخلق حالة من الكراهية التي يعيشها غالبية الناس لاسيما المهمّشين منهم تجاه من يحكمون البلاد ويتحكّمون بمصائر العباد، مثلما يخلق عند بعض النخبة حالة من الرفض لانتهاك الحقوق الأساسية للناس، فيكون هؤلاء أمام خيارات أحلاها مُرّ، فإمّا التقهقر والتراجع عن الأهداف، وبالتالي يكون الاستعباد والاستلاب والسجن داخل الذات. أو الرفض والمجابهة، وبالتالي السجن داخل زنازين زادها التعذيب واغتيال الحرية، وفي أفضل الأحوال يكون النفي مآلاً أخيراً. وبالتالي يعيش أفراد المجتمع حالة من العنف المُستتر والمتواري خلف صمت مُضنٍ وسخط موارب لا يلبث أن يتحوّل في لحظة ما إلى عنف رهيب يجتاح كيان الفرد والمجتمع والدولة على السواء. وهذا ما عايشته دولٌ عدّة في العقد الأخير ومنها بعض الدول العربية التي شهدت نزاعات وحروباً كان الاستبداد والتهميش والفساد الدافع الأكبر خلفها. ولا ننسى أن استبداداً آخر لا يقلُّ أهمية عن استبداد السلطات الحاكمة عمل على زعزعة العلاقات الأسرية والمجتمعية في خضم تلك المُجريات، ألا وهو الاستبداد الديني المُستتر أو المُتواري خلف موروث ما زال حتى يومنا هذا يتحكّم بمصائر الشعوب والحكّام على حدٍّ سواء، فقد ظهرت وبشكل فاضح ومُقزّز العديد من المفاهيم والمقولات المتوارثة عن بعض الأساطير الدينية التي تعمل على تكفير الآخر ورفضه جملة وتفصيلا، وبالتالي تنبنّي مفهوم الجهاد القائم على قتل هذا الآخر واغتصاب وجوده الإنساني بكل ما تعنيه الكلمة من امتدادات أدّت إلى تبادل الأدوار بين الأطراف المُتنازعة، ما قاد المجتمع إلى التفتّت والتّشتت والتهلكة، وكذلك انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية للجميع.
بالتأكيد، إن ما ينطبق على تعامل الحكومات مع شعوبها، ينطبق أيضاً على تعامل الدول القوية تجاه الضعيفة، فها هي ذي أمريكا اليوم ورغم بروز أقطاب جديدة، ما زالت تزرع الكون رعباً وخوفاً من حيث تفرّدها بحكم العالم بحجّة مكافحة الإرهاب تارةً، ونشر الديموقراطية تارةً أخرى، وما سبق ذلك من فرض لعولمتها على الكون، هذه العولمة المصاحبة لأحدث صنوف آلتها العسكرية وتجريب بعضها في أراضٍ خارج حدودها، وعلى شعوب تستعبدها باسم الديموقراطية.
هذا الخوف من أمريكا الذي تعيشه بعض الحكومات والشعوب، ما هو إلاَ بسبب الخلل النفسي والبنيوي في تلك المجتمعات. وهو يُعطّل الكثير من القضايا الوطنية الهامة والملحة في هذه البلدان، كالحرية والديمقراطية والاهتمام بتحسين وتطوير مستوى الفرد المادي والفكري، وذلك بسبب التماهي مع الإملاءات والمطالب الأمريكية التي لا تنتهي، والشروط المفروضة بشكل مباشر وغير مباشر على الحكومات والشعوب على حدٍّ سواء، من خلال الضخ الإعلامي الهائل لبرامج وأفلام وتقنيات لفرض نمطٍ من الحياة تجعل الفرد أمريكياً بامتياز، فيصبح المجتمع مستلباً متلقياً، غير فاعل، وبالتالي غير حر لا على الصعيد الذاتي، ولا على الصعيد العام، بسبب بنية نفسية جُبلت على الخوف من الآخر وكراهيته ورفضه.
ألا يعني هذا أن التحدي والمواجهة والاعتراف بقدرات الآخر وحقّه في أن يكون حراً (أفراداً وحكومات) هو الطريق السليم والصائب للعيش بكرامة تليق بالبشر.
فلماذا لا نجعل من تلك الحرية هدفاً ننشئ عليه الفرد والمجتمع لتكون الحياة والإنسان أسمى من كل ربح؟