العمل الخيري ما بين الالتزام والاحتيال
إيمان أحمد ونوس:
تاريخياً، تُعتبر الأعمال والأنشطة ذات الوجهة الخيرية إحدى أهم سمات وخصائص المجتمع السوري، فأينما اتجهت في المدن أو الأرياف لا بدّ أنك ستلمس انتشار الجمعيات الخيرية التي تنشط في مجال دعم الفقراء وإعانتهم بمختلف الاتجاهات، وعبر موارد مُتعدّدة ومتنوعة أهمها الزكاة والتبرعات التي تأتي من رحاب الجوامع والكنائس، أو من رجال أعمال أو أُسر ميسورة، أو حتى منظمات إنسانية أخرى، وذلك بهدف مساعدة الفقراء والمحتاجين والأيتام والأرامل والمساكين.
وقد جرى تنظيم عمل هذه الجمعيات بالقانون رقم 93 لعام 1958 وتعديلاته، وقد جاء في المادتين 52- 53/ ما يلي:
المادة 52- تُعدُّ جمعية خيرية كل جمعية تتكون لتحقيق غرض أو أكثر من أغراض البر أو الرعاية الاجتماعية قصر نفعها على أعضائها أو لم يقصر عليهم، وإذا باشرت جمعية غير خيرية غرضاً من أغراض البر أو الرعاية عن طريق هيئات داخلية فيها، خضعت هذه الهيئات لأحكام الجمعية الخيرية. ولا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الإدارة والعمل للجمعية بأجر.
المادة 53- على مجلس إدارة الجمعية الخيرية أن يضع تقريراً سنوياً عن أعماله ونشاطه، وأن يوافي الجهة الإدارية المختصة بميزانية الجمعية وحسابها الختامي مع المستندات المؤيدة لها متى طلب تقديمها، وعليها أيضاً تقديم أية معلومات أو بيانات أخرى تطلبها الجهة المذكورة.
وقد ارتفعت وتيرة الأنشطة الخيرية بشكل لافت سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى العام (الجمعيات الخيرية والمبرات) أو عبر منظمة الهلال الأحمر وسواها خلال الحرب التي شهدتها البلاد وما زالت تبعاتها السيئة والسلبية تتوالى يوماً بعد آخر، ما يستدعي استمرار الأنشطة الخيرية بهدف مساعدة النازحين الهاربين من نيران الحرب، بعد أن تركوا مناطقهم وبيوتهم أطلالاً تعيث فيها الغربان، أو تقديم المعونات المتنوعة للأُسر التي فقدت معيلها، أو تلك التي فقد معظم أفرادها أعمالهم الأساسية، وأوصِدَت بوجههم أبواب الرزق التي كان من الممكن أن تقيهم ذلّ السؤال، أو أولئك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن فلم يعد لديهن مورداً لإعالة أنفسهن وأطفالهن.
وفي ظلِّ هذه الظروف التي ترافقت مع جائحة كورونا عام 2019 وكذلك الزلزال الذي ضرب بعض مناطق سورية في شباط من عام 2023، انخرط العديد من الشباب (ذكوراً وإناثاً) في العمل التطوعي- الخيري، لدى مختلف هذه الجمعيات والمنظمات بما فيها مراكز الإيواء المنتشرة في معظم المدن والبلدات والأحياء، وربما بعيداً عن أيّة جهة من أجل جمع المعونات والمساعدات المادية والعينية لتقديمها للمحتاجين، فكانت ظاهرة لافتةً للانتباه، حيث أخرجت القدرات الكامنة لدى شبابنا المفعم بالحيوية والمسؤولية، وروح العطاء بلا مقابل في وقت وظرف يحتاج لجهود الجميع بلا استثناء.
غير أن بعض أولئك الذين يعتبرون أنفسهم ناشطين في هذا المجال، قد اتخذ من هذا العمل وسيلة لجمع الأموال تحت غطاء شرعي وبحجة العمل الخيري التطوّعي، فقد باتت هذه الأنشطة في الآونة الأخيرة لقمةً سائغةً في يد من باع ضميره وشرفه، وتنكّر لانتمائه وأهله، فظهر ثُلّة من النصابين المحتالين الذين يستغلون هذه الجهود ليجمعوا الأموال أو يُشرّعوها تحت غطاء العمل الإنساني الخيري، في ظل غياب قانون يواكب العصر وينظم عمل المنظمات والمؤسسات غير الحكومية. والضحية.
لا شكّ أن وجود مثل أولئك الأشخاص الذين يستغلون طيبة البعض واندفاعهم من أجل مساعدة البعض الآخر لا يقلّون إجراماً عن تجّار الحروب والأزمات الذين يحتكرون ويتاجرون بعيش الفقراء وصحتهم وأمانهم، ولا عن أولئك الذين دمّروا البلد من أجل أهداف وغايات بعيدة تماماً عن الشرف والإنسانية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن وجود أولئك النصّابين في المجتمع لابدّ سيقيّد غالبية الناس عن اندفاعهم وحماستهم في مساعدة الآخرين، لعدم ثقتهم بأن ما يقدمونه سيصل إلى مستحقّيه بالفعل، وبالتالي ستتقلص مساحة التفاعل والتعاطف الإنساني- الاجتماعي المطلوبة وبشكل مُلحّ في هذه الظروف الاستثنائية بكل المقاييس والاتجاهات، في الوقت الذي يبقى فيه أولئك المحتاجون رهينة جوعهم وبؤسهم وشقائهم. وهذا ما ينطبق على عدد من الجهات الأخرى التي إمّا أنها تُتاجر بما يصلها من مساعدات إنسانية محلية أو دولية، حتى باتت مواد وسلع المساعدات بمختلف أنواعها بضاعة رائجة في الأسواق، وبأسعار تفوق أحياناً أسعار السلع المحلية، أو أنها تعطيها لمن له سطوة أو نفوذ أو جاه، أو معرفة بالقائمين على توزيع تلك المساعدات دون وجه حق أو حاجة، فتحرم منها مستحقيها الحقيقيين والذين قد لا يحصلون في أفضل الأحوال إلاّ على النذر اليسير ممّا هو حقّ لهم، فتلجأ غالبيتهم إمّا للتسول أو لمواجهة الجوع والعوز بجيوب خاوية.
ولا أعتقد أن الجهات الرسمية أو المختصة بمراقبة عمل الجمعيات وسواها ممّن يعملون في مجال الإغاثة، قد قامت بأيّة مساءلة حقيقية وفق ما هو وارد في المادتين أعلاه، وبالتالي بقي المواطن الفقير والمحتاج إضافة إلى المواطن المقتدر والمندفع لفعل الخير وتقديم العون للمصابين والمحتاجين ضحية النصب والاحتيال والمحسوبيات. فهل من محاسبٍ أو رقيب؟!