(كورونا) ثورة في مجال العمل عن بُعد

إيمان أحمد ونوس:

اتخذ عمل الإنسان عبر تاريخه الطويل أشكالاً مختلفة ومتنوعة، فقد ساد بدايةً العمل اليدوي القائم على الجهد العضلي بالمطلق، سواء في الزراعة أم في الصناعة والتجارة …الخ. لكن، مع تطور العقل البشري، طوّر الإنسان أدواته وأنماط حياته وعمله بما يتوافق وتطور إحساسه بقدراته ورؤيته للأشياء والحياة من حوله، وهذا ما شمل لاحقاً تطور العلوم التي ساهمت إلى حدٍّ بعيد في ظهور بوادر الثورة الصناعية التي انطلقت من إنكلترا بداية، ومن ثمّ اجتاحت أوربا كاملة.

لقد استندت هذه الثورة في نشوئها على النهضة التكنولوجية آنذاك التي أدّت لاختراع العديد من الآلات الجديدة (الآلة البخارية مثلاً) التي حقّقت إنتاجاً عالياً وواسع النّطاق في وقت قياسيّ مُقارنةً بالإنتاج الذي يرتكز على العمالة اليدويّة، وهذا ما يمكن اعتباره المرحلة الأولى من الثورة الصناعية، على اعتبار أن المرحلة الثانية منها بزغت مع اكتشاف الكهرباء على يد توماس أديسون عام 1880، ما مهّد لاحقاً إلى اختراع المحرّكات الكهربائية، بالتزامن مع اكتشاف النفط الذي أدّى إلى تطوّر الصناعات الكيميائية وظُهور السكك الحديدية التي استُعيض بها عن الخيول بعد أن كانت الوسيلة الأساسية لنقل البضائع لعقود بعد الثورة الصناعية الأولى، ممَّا كان لهُ كبير الأثر على الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في مختلف دول أوربا ومنها إلى باقي أرجاء العالم.
لقد ظهر خلال هذه الحقبة عدد كبير من الاختراعات والأجهزة التي ساعدت على التطوُّر المستمر للتكنولوجيا، مثل التلّغراف الذي تطوَّر وأصبح هاتفاً فيما بعد، ووصلنا فيما بعد حتى اليوم إلى كوابل الألياف الضوئية، كما عمّت الكهرباء وتطبيقاتها العالم كله، ما ساهم في تطوير الإنتاج وزيادته وتحسينه، بتكلفة مالية أقلّ.

لقد ساعد كل هذا على تطور فكر الإنسان وعلومه واختراعاته بما مكّنه من إحداث ثورة معرفية وتقنية أكبر وأعظم سُمّيت ثورة الاتصالات التي اعتمدت بشكل كبير وأساسي على تطور التكنولوجيا الرقمية وغيرها، وقد أحدثت هذه الثورة زلزالاً معرفياً وعلمياً على مستوى العالم أجمع، العالم الذي أصبح بكليته بين أيدينا من خلال ألياف ضوئية وشاشات وتقنيات كانت في الماضي خيالاً وحلماً بعيد المنال.

لقد أحرزت ثورة الاتصالات انتصاراً باهراً بما أحدثته من تقارب بين عموم البشر في أربع جهات الأرض، ما عمل على تغيير نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى الآخر وإلى كثير من المفاهيم والمعايير السائدة في مختلف مناحي الحياة واتجاهاتها، وبضمنها العمل الذي استغنى عن آلات كانت أساسية وسائدة كالآلة الكاتبة مثلاً، فقد حلّ الكمبيوتر مكانها بتقنيات أسرع وإنتاجية أعلى وأكثر تنوّعاً، وكذلك استُعيض عن التلكس في مجال المراسلات بالفاكس الذي فكّ رموز تلك المراسلات ونقلها من مكان إلى آخر في اللحظة ذاتها وبصورتها الأصلية، وصولاً إلى الإنترنت الذي ساهم بتغيير أدوات عمل الإنسان من البسيطة إلى أدوات ذات تقنيات حديثة وسريعة، وهكذا تمّ تقليص الزمن الذي كان يستهلكه العمل التقليدي، مثلما قرّب المسافات التي باتت افتراضية مُمهّداً الطريق لظهور ما يُسمّى بالعمل عن بعد في بعض الشركات العالمية.

لقد غدا الإنترنت اليوم بخدماته العديدة أحد أهم أسواق العمل عن بعد حول العالم، من خلال قدرته على ربط شخصين أو أكثر في قطبي الكرة الأرضية دون التقيّد بالزمان والمكان، بما يُسهّل العمل عن بعد، ويُساعد على تحقيق فوائد أكبر للموظفين وأرباب العمل على حدٍّ سواء. لقد اقتصر العمل عن بعد بداية على ما له علاقة بالآداب (ترجمة، صحافة، تأليف.. الخ) والعلوم وخاصة منها المصرفية والمحاسبية والتسويقية، يُضاف إليها عمل شركات الاتصالات المتنوّعة. لكن يمكن القول إن هذا كان مقتصراً على بعض الشركات والدول (وبالتأكيد نحن لسنا من ضمنها إلا في حيّز جدّ ضئيل)، إلى أن اجتاح إعصار (كورونا) العالم وفرض على الشعوب والحكومات حجراً منزلياً وصحيّاً أوقف معه مختلف الأنشطة البشرية وبضمنها الأعمال والوظائف الحكومية والخاصّة. وهنا وجدت الحكومات وشركات القطاع الخاص نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، فإمّا الشلل الكامل، وإمّا محاولة العمل عن بعد كي لا تُصاب الدول والشعوب بالموت السريري، وكان الانتصار للعمل بالمنزل في قطاعات يمكن أن تُدار عن بعد، منها التعليم الذي كان مُقتصراً لدينا على التعليم الجامعي/ الافتراضي، فقد نشطت الورشات والندوات التعليمية التفاعلية عبر النت وبإشراف وزارة التربية، إضافة إلى استمرار أنشطة الجمعيات والنوادي الثقافية والفنية والتي رأينا كيف تُحيي النشاطات الافتراضية عبر الإنترنت بكل خدماته.

لقد عاش كثيرون منا حالة العمل عن بعد بشكل أو بآخر، لاسيما خلال فترة الحجر المنزلي، ولا شكّ أننا لمسنا ما له من إيجابيات تتعلّق بالحرية في اختيار وقت العمل، والحرية في كيفية العمل بعيداً عن البريستيج المتعلّق باللباس والطعام الذي يتطلبه العمل في الدوائر والمكاتب، إضافة إلى تخفيض نفقات أجور النقل، وكذلك التقليل من الازدحام البشري الذي يفرضه الخروج للعمل على وسائط النقل العام والخاص وفي الشوارع، ما يعمل على تخفيف حدّة التلوّث الذي تُعاني منه المدن الكبرى والناجم في جزء منه عن وسائل النقل. وعلينا ألاّ نُغفل تخفيض نسبة البطالة لدى الشباب الشريحة الأكثر مرونة في التعامل مع هذا النوع من العمل الذي يتطلّب مهارات متميّزة في استخدام التقنيات وغيرها.

لكن بالمقابل هناك ولا شكّ سلبيات لهذا النوع من العمل تتعلق بانعدام أو شبه انعدام للبنية التحتية التي يتطلبها، كاستمرارية عمل التيار الكهربائي، جودة الخدمات المُقدّمة التي لا تتماشى مع هذا النوع من العمل كاستمرارية تدفق النت أو بطئه بشكل لا يُساعد على إنجاز الأعمال المطلوبة لاسيما تلك التي تحتاج إلى سرعات عليا، التأخير من قبل الإدارات في تسديد الاستحقاقات المالية للعاملين من رواتب وغيرها.

أمّا على المستوى الشخصي فإن العمل عن بعد يُعزّز خاصية التكاسل وعدم تنظيم الوقت عند الإنسان، إضافة إلى التداخل الكبير ما بين المهام المنزلية والوظيفية في الوقت ذاته ممّا يؤثّر على جودة الاثنين معاً. وهناك نقطة أخرى على قدر كبير من الأهمية ألا وهي العزلة الاجتماعية التي يعيشها الأشخاص المقيمون وحدهم بعيداً عن الأهل، ممّا يؤدي للشعور بالاكتئاب أو القلق أو ما شابه. كما أن هذا النوع من العمليفتقد إلى الكثير من التشريعات التنظيمية والقانونية لتحديد الأجور والعلاقات والارتباطات بين الموظف وصاحب العمل، باعتباره حديثاً، قياساً للعمل التقليدي، لذا يحتاج بالتأكيد إلى قوانين وتشريعات تنظم العلاقة ما بين العاملين وأرباب العمل، لاسيما إذا علمنا أن الإحصائيات تُشير إلى أن العمل عن بعد سيُعادل أو يتجاوز العمل التقليدي بحلول عام 2025 وخاصة بعد أن أدركت غالبية الشركات فوائد توسيع نطاق البحث عن المواهب والكفاءات من خارج جغرافيتها.

واليوم نجد أن العالم باستخدامه للتكنولوجيا الرقمية، قد تجاوب بشكل أو بآخر مع نمطية العمل عن بعد للأسباب المذكورة أعلاه، وقد عزّز من سيادة هذا التجاوب هبوب إعصار (كورونا) الذي يمكن أن يكون التاريخ الأمثل لبداية ثورة صناعية جديدة تفترض بروز قوى وتحالفات سياسية جديدة، إضافة إلى حدوث تغييرات في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد سلباً وإيجاباً، كما يرى الأستاذ طلال الإمام في مقال له منشور بجريدة النور بعنوان (بين كورونا والثورة الصناعية).  

العدد 1102 - 03/4/2024