لهن… يجب أن ننحني

إيناس ونوس:

أكّدت دراسات متعدِّدة أن الإنسان يأتي إلى هذا العالم حاملاً لصفات الجنسين معاً، مع اختلافٍ بالدَّرجات، فيه من الأنوثة ومن الذكورة معاً لكن بنسبٍ متفاوتة، ويكون كالورقة البيضاء إلاَّ أن الأهل يرسمون عليها ما ترعرعوا عليه وما حملوه من قناعاتٍ وأفكار، اعتماداً على ثقافةٍ مجتمعيةٍ سائدةٍ مُحصَّنةٍ بثقافةٍ دينيةٍ ومناهج دراسيةٍ وطرق تربويةٍ تُعزِّز تلك الأفكار والمبادئ التي اعتمدت في غالبية المجتمعات مبدأ التَّمييز على أساس الجنس.

فمنذ أن تُخلق الفتاة تبدأ عملية التَّربية القائمة على قولبتها ضمن إطارٍ مسبَق عاشت ضمنه أمُّها وأختها وكل الإناث المحيطات بها، يبتدئ من اختيار لباسٍ ذي لونٍ مُحدّدٍ للفتيات يميّزهن عن الذكور، مروراً بتقييد حركتها منذ نعومة أظفارها، فقط لأنها فتاة ممنوعٌ أن تركض أو تضحك بصوتٍ مرتفع، أو أن تلعب مع غيرها من أبناء جيلها من الذكور، عليها بعض الواجبات التي ستهيئها لمستقبلها المحتوم كربَّة منزل وأم متفانية وزوجة صالحة، ولا حق لها في التَّفكير بحياتها وأسلوب معيشتها ومستقبلها سواء العلمي أو المهني، فكل هذا مُخططٌ مسبقاً لها، وما عليها إلاّ التَّنفيذ، وإلاّ وصفت بأشنع الصِّفات وقوبلت بالكثير من الرَّفض والاستهجان، إن لم يكن نعتها بأنها قد تخلَّت عن دورها التَّاريخي المنوط بها وتحوَّلت إلى رجل!!

إن أساليب التَّربية وطرقها هي المسؤول الوحيد عن الفصل لهذا الحدّ بين الذَّكر والأنثى. فمن قال إن الأنثى لا يمكن لها أن تعمل أو تفكر أو تعيش كما الذَّكر؟ من قال إنها لا يمكن أن تعتمد على نفسها، وإنها ليست أهلاً للثِّقة أو الوعي أو العيش بالشَّكل الذي ترتئي فيه ما يناسبها!؟

ها قد وصلنا اليوم، في المجتمع السُّوري تحديداً وبعد سنوات الحرب الكارثية، إلى أن نرى النِّساء والفتيات يقمن بأعمالٍ لم يكنَّ يقمن بها سابقاً، انطلاقاً من ضرورات الحفاظ على البقاء التي فرضها الموت!! وها هنَّ فتياتنا يعتمدن على أنفسهن في قضاء احتياجاتهن واحتياجات آخرين بتن مسؤولاتٍ عنهم فجأة ودون سابق إنذار!! فأثبتن أنهنَّ جديراتٍ بالحياة بكل معنى الكلمة.

إن النَّتيجة التي وصلنا إليها اليوم تؤكِّد أن الفوارق التي كانت دارجةً في السَّابق ليست متأصِّلة في الطَّبيعة البشرية، وإنما تعود إلى التَّربية وأساليبها المعتمدة حتى باتت نوعاً من البديهيات التي يجب عدم مخالفتها، وما إن انزاح هذا الغطاء حتى بانت الأمور على حقيقتها بأن الإنسان أيّاً كان جنسه قادرٌ على العيش في شتى الظُّروف، وأنه سيجد الشَّكل الأنسب لحياته حينما يوضع على محكِّ الحياة. فالمرأة التي أخذت على عاتقها، مع مسؤولياتها كأم وربة منزل، دور الأب والمعيل والمسؤول عن كل شيء، أثبتت أنها قادرة. والفتاة التي تُرِكَتْ وحيدةً بوجه رياحٍ عاتيةٍ تمكّنت من النُّهوض والوقوف على قدميها مجدداً، فبذلت كل ما تملك من جهودٍ لتكمل تعليماً أو تبني بيتاً أو تعمل أعمالاً صعبةً أكَّدت مكانتها التي منحتها إياها الطَّبيعة، وبرزت إمكانياتها المُغيّبة سابقاً بحكم قائمة المحظورات المجتمعية والدِّينية والتَّربوية التي حصرتها ضمن إطارٍ ضيّقٍ. هذه الأمثلة وغيرها أوضحت للآخرين أن الشَّرف والكرامة مفهومان لا علاقة لهما بالجسد أو القبيلة أو المعتقد الدِّيني، وإنما بالعقل والعمل وعدم البقاء عالةً على الغير، وأن التَّعليم حقٌّ بديهي، وأن الحياة جديرةٌ بأن تُعاش بكل ما فيها.

هؤلاء الإناث اللواتي خرجن من الشَّرنقة المجتمعية حاملات وعيٍ وفكرٍ متوقدين، استطعن إثبات جدارتهن وحقهن في الحياة. هؤلاء من يجب علينا أن ننحني احتراماً لهن. هؤلاء من يحق لهن أن يحملن لواء تربية الأجيال القادمة!!

 

العدد 1102 - 03/4/2024