طلّي بالأبيض

وُلِدت حواء، مباركٌ مجيئها، عقبى أن تروها عروساً تزيّنُ دارها، وها هي ذي تكبر وتنضجُ فتصبح جميلةً يتمناها كلّ رجل، وعلّها تتعلم فتصير قادرةً على تعليم أولاد رجلها فترفع اسمه وتبني بيته..هكذا تتربى الفتاة منذ ولادتها، وهذا ما تسمعه، يتشبث في داخلها باللاوعي، فتكبر وهي ترنو إلى نظرة من شاب أو إعجاب أو حبّ منه يأخذها إلى عالم الأسرة والاستقرار.

حين تكبر وتبدأ النضج تأخذها أفكارها يمنةً ويساراً: هل أنا مرغوبة؟ وهل سآخذ نصيباً لا يجعلني أعيش وحدي في هذا العالم؟ هل أنا جميلة؟ هل إن تعلمت وأخذت الشهادات سيرغب بي رجل ما أم أنه سيعتبرني قوية ومتمردة؟ أسئلة كثيرة تدور في بالها، وأفكار غريبة ومتناقضة تجتاحها، لأن هناك أناساً يزرعون داخلها أشلاء من كل لون وشكل..

سألت زينة عن زواجها في عمر العشرين فقالت إنها تصف نفسها بـ(فاقدة الصبا)، سألتها عن السبب فأخبرتني: تربيت في أسرتي على أن الفتاة عليها أن تتزوج في سنّ مبكر، فيكون نصيبها أفضل وإنجابها للأطفال أيسر، وسيحبّها زوجها أكثر، وهكذا فعل أهلي بي، فبعد الثانوية توقفت عن التعليم وجاء (نصيبي) فتزوجت، وإذا بي أعاني من ألم (فقدان الصبا) فأنا لم أعش حياة الشباب ولم أذهب إلى الجامعة كباقي صديقاتي ولم أتمشَّ معهن في حديقة الجامعة ولم نضحك معاً في جلسةٍ لطيفة، لم أعش قصة حب، ولم أتعب في فحصٍ جامعي.. وجدت نفسي غارقة في محيط كبير وما أنا إلا سمكة صغيرة… خوفاً من أفكار المجتمع، وها أنا ذا اليوم مبتلعة في أمواج محيط لا متناهٍ.

أما ريم (المهندسة) فقالت: تزوجت وأنا في الأربعين من عمري، بعد أن حققت الكثير من النجاحات والمشاريع وبتّ الأميز بين أصدقائي الشبان منهم والشابات، حالفني الحظ كثيراً فوصلت إلى شركات، وشاركت في مؤتمرات وسافرت إلى بلدان كثيرة بسبب جهدي وتميزي. صار اسمي معروفاً، وعملي مشهوراً بحرفيته وأمانته، وبات لدي بيت وسيارة ومكتب كبير؛ لكني، فجأة مللت من كلام الناس، فقد كانوا يشعرونني وكأنني معقدة أو مغرورة أو متمردة..، سئمت نظراتهم، متعبة هي كلماتهم: لِمَ لا تتزوج؟

تزوجت، وكانت تضحيتي الكبيرة، وهنا كان الخطأ الكبير المتعب الجميل الغريب، فقد تركت الكثير من حياتي ومشاريعي لأتفرغ لبيتي الصغير وزوجي وطفلي.

قابلت نبيلة، تلك الشخصية المستقلة تماماً. عاشت وكلها إيمان أنها قادرة على صنع حياتها كما تريد، وأنها وإن تعددت احتمالات حياتها فهي وحدها من تكون قادرة على التحكم في سير الأمور وفي جعل نفسها سعيدة أو حزينة، وحيدة أو مع الناس.. وهكذا أكملت مسيرتها، فتعلمت وعلّمت، وصارت من الأسماء المعروفة في مدينتها، فهي المعلمة الموقرة ذات الصيت الذائع بالفخر والإخلاص وحب العمل، عاشت مع عائلتها إلى أن بقيت وحيدة، رافضة فكرة الزواج متقبلة الوحدة، فهي لا تستطيع أن يشاركها أحد في حريتها التي ستكبَّل إن تزوجت، قالت لي إنها ليست مستعدة أن تأسر نفسها في منظور مجتمع، فهي تعرف نفسها وفية ومحترمة ومجدة وتحب الحياة، ففي الأسرة حياة، لكنها لا تستطيع أن تقبع ضمن مسؤولية أسرة، بل تريد أن تعتني بنفسها، وأما عن سني عمرها حين تكبر فإنها ستجد لنفسها معاوناً ومساعداً وممرضةً أو أياً كان، فهي عملت في حياتها كلها لتسقي شيخوختها بما تحتاج.

أما ميسون فقالت: أنا صبية عادية، درست وعملت، تمنيت أن أكمل حياتي مع رجل وأطفال، لكن حظي في الحياة لم يسعفني، فمن أين سنأتي بالشباب؟ فشباب قريتي منهم من هاجر ومنهم من يحارب، ومنهم من مات، فهاجر عمري وحارب ومات، وها أنا  ذا وحيدة بين ما أرغب من جهة، وما أتت به ظروف الأزمة ووضعها من جهة أخرى؛ لكن ما يجعلني بمزاجٍ معتدل أن الكثيرات من صبايا قريتي الآن لا يجدن شباناً للزواج.. فلم يبقَ هناك أحد.

تنوعت الأفكار، تبدلت الآراء، اختلفت الأقدار، وبقيت امرأة تصارعت داخلها العبارات: (ترتَبي، تجمّلي، تعلّمي الطبخ، تذاكي، ابحثي عن رجل…) كلمات كثيرة جعلتها تنسى إن كانت إنساناً هي على شكل امرأة أم شيئاً يستخدم لإسعاد الرجال وتفخيمهم وتكوين نسلهم لأجيال وأجيال.

لذا وضمن هذه الظروف التي تمر بها البلاد، على المرأة أن تبني نفسها كإنسان، فهي التي ستبقى ليبقى الكون عامراً بالحب والإنسان، عليها أن تعلم أنها شريك في هذا العالم، ووجودها فخم ومهم وجوهري كأجمل كائن في الحياة، عليها أن تكون واثقة بأن زواجها وعدمه لن ينتقص من قيمتها وفكرها وصحتها وحبها للمستقبل ولنفسها، عليها أن تتقبل فكرة عدم زواجها على أنه احتمال كبير لقلة الرجال، على أنه حدثٌ موجود فتتأهب لاستقباله بفرح استقبالاً لمرحلة ليست كسابقها وما مر عبر الزمان.

المرأة بحد ذاتها حياة، وهي من يضيف حياةً على كل حياة…؟

العدد 1107 - 22/5/2024