عن الدين والدولة والعلمانية

إشكالية العلمانية ليست الفصل بين الدين والدولة. هما مفصولان منذ القرون الإسلامية الأولى، بل هي الفصل بين الدين والسياسة. يتعلق الدين بالإيمان، وهذه مسألة بين الفرد وخالقه. وعندما يتحول الدين إلى طقس جماعي تحل العقيدة مكان الإيمان، أو تصير هي ميزان الإيمان في المجتمع، وكل مسائل العقيدة تقررها السلطات السياسية (عقيدة الخليفة القادر) أو الأنتلجنسيا الثقافية والدينية (عقيدة أبي إسحق الشيرازي). العقيدة هي تفسير بشري للدين، للإيمان. هي ما يعتبره صاحبها أنها الدين، فهي نقاش ورأي. وموضع نزاع أحياناً. وقد رأينا التاريخ الإسلامي حافلاً بالنزاعات حول العقيدة وحول المذهب، وأحياناً تتعدد العقائد داخل المذهب الواحد (الخليفة القادر حنبلي الميل، والشيرازي شافعي). وكثيراً ما تقاتل، في بغداد وغيرها في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين مثلاً، الحنابلة والأشاعرة والشافعية. وذهب ضحايا هذه الصراعات العديد من الناس.

إذا كان الدين كإيمان هو علاقة بين الإنسان وخالقه، فإن السياسة علاقة بين الإنسان والإنسان. وقد قال الماوردي في مطلع (كتابه الآداب السلطانية) إن الإمامة موضوعة (لحراسة الدين وسياسة الدنيا). والمرجح انه استخدم تعبير حراسة الدين لأن الدين اكتمل منذ خطبة الوداع. أما السياسة فهي موضوع مستمر مع استمرار المجتمع. والخلافات حول السياسة تأتي معها بخلافات حول العقيدة، لا الإيمان.

تريدنا السلفية التي تدعو للعيش في الماضي وتقليد خلافات الماضي أن نخوض صراعات خاضها الأوائل، بينما نرى أن المشاكل التي يواجهها مجتمعنا قد اختلفت، وهي تستدعي اجتهادات جديدة. بعض هذه الاجتهادات يتعلق باكتشافات علمية حول الطبيعة مختلفة عن القرون الماضية. الطبيعة اليوم هي غير الطبيعة منذ 15 قرناً: مدن درست، قرى أزيلت، صحراء تتوسع، أرض زراعية موات، حِرفٌ انتهت، صناعات جديدة. قوة المجتمعات الإسلامية ضعيفة بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى. ولَّت منذ قرون الظروف التي جعلت العالم الإسلامي في مقدمة العالم على صعيد الحضارة المدنية والعمران والفنون والعلوم والآداب والتنظيم الاجتماعي، الخ… العيش في الماضي، أو فيما يشبه الماضي مستحيل. يحتاج العصر الراهن إلى عقل راهن. ولا يتنامى العقل الراهن أو الماضي أو كل عقل آخر، مع الإيمان: أهم الجامعات الأمريكية أنشأها بروتستانت مسيحيون متشددون في الإيمان، وبعضهم من أتباع الرؤى الألفية الأبوكالبتية.

إشكاليتنا الراهنة هي في السياسة. وهذه بطبيعتها تتنافى مع الرؤية الواحدة للتاريخ أو للحاضر أو للمستقبل. السياسة هي فن التسويات بين رؤى مختلفة وبين أصحاب رؤى مستعدين للتخلي عن بعض ما يعتبرونه حقيقة للوصول إلى اتفاق حول ما يمكن فعله. ضرورة الفعل والعمل تستدعي القرار الذي يُتخذ بإجماع أو بالأكثرية. والقرار ضروري كي تصبح التسوية ممكنة التحقق. والتسوية، أو تراكم التسويات، هو السياسة. وما العلمانية إلا اعتبار للسياسة في زمن لا يحتاج الدين إلى أكثر من حماية، وهذه مهمة كل دولة وكل سلطة سياسية. ليست الإمامة هي الخلافة، بل هي السلطة، هذه حلت محل الخلافة بشكلها السلطاني منذ هبوط سلطة الدولة العباسية، وحلت مكانها فعلاً سلطة السلطان بالتفويض كما رأى الفقهاء بإجماعهم.

مجتمع من دون سياسة يغرق في دياجير الخضوع لسلطات الاستبداد أو الحروب الأهلية كما نرى واقعنا العربي الآن. والبلدان الإسلامية الأخرى ليست بمنأى عن ذلك. الدين له ربّ يحميه، كما قال عبد المطلب عن مكة عندما همَّ أبرهة الحبشي بمهاجمتها. أما السياسة فهي التي يتقرر على أساسها مصير الجماعات الإسلامية. وما العلمانية إلا السياسة في زمن تتعرض هذه المجتمعات لهجومات شرسة. أما الدين فهو ليس في خطر إلا إذا اعتبر بعض أصحاب الرؤية الواحدة أن الأمر كذلك: وهذا غير صحيح في زمن يتوسع هذا الدين في قارات الأرض الخمس بسرعة أكثر من أي دين آخر.

الخوف ليس على الدين بل على المجتمعات الإسلامية، وخاصة العربية، من الانهيار والتفكك. والسبب الأساسي في ذلك هو العزوف عن الدنيا وعن الاهتمام بها. ليس التطرف الديني إلا عزوفاً عن الدنيا، وإلا كان الانصراف نحو السياسة والعمل والإنتاج. وليست العلمانية إلا الاهتمام بالسياسة وإعطائها الأولوية في عالم ما عاد ممكناً التقدم فيه إلا لمن يهتم بأمور الطبيعة والعلم بها، وبالإنتاج والسعي نحو علاقات بشرية أفضل.

 

عن (السفير)

العدد 1107 - 22/5/2024