الاشتراكية والعدالة الاجتماعية

تنتصب أمام بلادنا مهام النضال الوطني التحرري الذي تترافق فيه مهام النضال ضد الإمبريالية والصهيونية بمهام البعد الاجتماعي والديمقراطي.

إن التناقضات القائمة في ظل العولمة بين الإمبريالية وسعيها للسيطرة من جهة، وحاجة الشعوب إلى التحرر والانعتاق من تلك الهيمنة من جهة ثانية، هي التي تُملي اتجاهات النضال التحرري ومهامه.

فالنضال ضد الإمبريالية بقصد مجابهة مخاطرها، ولتحقيق التنمية والتقدم غديا مرتبطين بالنضال من أجل نظام اجتماعي جديد أكثر عدلاً ومساواة، وهذا في المدى المستقبلي ما هو إلا الاشتراكية.

إن تضافر نضالات الشعوب ضد الإمبريالية في الساحة العالمية يعزز جهود القوى الاجتماعية والسياسية المناضلة من أجل التقدم الاجتماعي في مختلف البلدان، التي يهيئ انتصارها إلى فتح الطريق أمام التقدم نحو الاشتراكية في عالمنا المعاصر. ولابد من السير على هذا الطريق الطويل تحقيقاً لتلك الغايات النبيلة، ولإقامة نظام عالمي عادل، وصيانة السلم الدولي.

فالرأسمالية الإمبريالية تاريخ ملوث بالفجور السياسي. لقد شنت الحروب لاقتسام العالم واستعمار شعوبه، وزجت العالم في حربين عالميتين طاحنتين راح ضحيتهما ملايين البشر. ولا تزال الدول الإمبريالية الاحتكارية تعمل بدأب لتفرض على الدول النامية سياسات القهر والعزلة والتهميش والتبعية وتحرير الأسواق والأسعار، وإضعاف دور الدولة الوطنية في قيادة عملية التنمية. وتحجب عنها في الوقت ذاته مصادر المعرفة، ومنافذ نقل التكنولوجيا الحديثة، ما يفاقم عمليات النهب واختلال موازين التبادل، واستمرارها في حالة من التخلف والتبعية. وعندما يبشر مكان ما بأرباح يتصرف النظام الرأسمالي تصرفاً غير اجتماعي وغير أخلاقي، وقد يسفر عن خسائر بالأرواح لا يهتم لمآلها. ولا تراعي هذه السياسات مبادئ السيادة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تجلب الاستقرار للعالم، وإنما أدت إلى انتشار النزاعات والإرهاب، وبرز التطرف الديني والعنصرية والفاشيون والنازيون الجدد. ولا شك في أن الرأسمالية قد حققت في بعض البلدان رخاء وضمانات اجتماعية عديدة، ولكن ثمن نجاحها هذا كان دائماً على حساب ويلات رهيبة من القتل والاستعباد والمجاعات للشعوب الأخرى.

إن نزعة الحروب لدى النظام الرأسمالي الذي يمتلك السلاح النووي قد تعرض الحياة الإنسانية برمتها إلى الفناء، وما ينفق على السلاح والحروب يكفي لمعالجه ناجعة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. فلا بد من تغيير الإدارة السياسية للعالم.

لقد أنتجت الرأسمالية قوى وإمكانيات هائلة، ولكن تناقضاتها الداخلية تغدو كابحاً لها.فأزمات النظام الرأسمالي العالمي لا تزال تتكرر وتتعمق، وتؤكد طابعها البنيوي، وتتجلى في مناحٍ عدة: فرط إنتاج ومنافسة حادة على الأسواق، وتراكم رأسمالي على حساب صغار المنتجين والشرائح الشعبية، واحتدام التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وتملكها الخاص، ولم تُجد كل الطرق حتى الآن في معافاته، رغم التقدم التقني الكبير وحقنه بترليونات الدولارات. بينما تمثلت ردود فعل الإمبرياليين بالهجوم على الحقوق والمكاسب الاجتماعية والديمقراطية للفئات العاملة المنتجة في بلدانها، والضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الحقوق الوطنية للشعوب الأخرى، ويجري إعادة صياغة قوانين العمل بهدف تعميق استغلال العمال، وبما يشبه الانتقام منهم عمّا كسبوه سابقاً بتأثير منجزات الاشتراكية. ويرافق ذلك انهيار في منظومة القيم الأخلاقية، مما يظهر الوجه الحقيقي لوحشية الرأسمالية، وتجاهلها للمعايير المنصفة والأعراف والقوانين الدولية. وقد شهدنا مثال ذلك مؤخراً في الرد العنيف من السلطات الأمريكية على حركة (احتلوا وول استريت) ضد البطالة. وكذلك على المظاهرات التي اندلعت في ولاية فيرغسون ضد التفرقة العرقية. وهكذا غدت الرأسمالية في أزماتها العامة بحاجة إلى (نهاية التاريخ) وباتت الشعوب بحاجة إلى نهاية الرأسمالية. وهذا يلقي على الأحزاب الشيوعية والعمالية مسؤوليات تاريخية. وعليها العمل على تعزيز تكاتف الطبقة العاملة وكل الفئات الشعبية المضطهدة في مواجهة هذه العدوانية.

ويفترض بالأنظمة الاشتراكية أن تضع حلاً للتناقضات الدولية بشكل عادل يضمن السلم والحرية والمساواة، على الضد من الديمقراطيات الرأسمالية الإمبريالية المناقضة والقاتلة لإرادة الشعوب والمحمولة على المدمرات الحربية العائمة على دماء ملايين البشر.

إن الاشتراكية هي نتاج تراكمي لنضال البشر على امتداد عشرات القرون، في إطار حركات سياسية، واتجاهات فكرية هدفها الرئيسي إلغاء الاستغلال والاستلاب والاضطهاد، وإقامة العدالة على الأرض. وفي سياق نضالها الملموس تربط بين حقها في الحرية والتحرر الوطني، مع تطلعها لبناء نظام للعدالة الاجتماعية.

إن خيارنا المستقبلي هو الاشتراكية، التي يتمثل قانونها الأساسي في الإشباع الأعلى للحاجات المادية والثقافية المتنامية لكامل المجتمع. وأول ما يتطلبه ذلك إدارة وقيادة دولة رشيدة، ومشاركة تنظيمات سياسية واجتماعية واسعة، وخطط اقتصادية واجتماعية تحقق أعلى تنمية وإنتاجية وأعمق عدالة اجتماعية وأوسع ديمقراطية. ولما كانت هذه الشروط لبناء الاشتراكية غير متوافرة في بلادنا الآن، فإن ما تتطلبه ظروف وطننا في هذه المرحلة هو سياسات وإجراءات تراكمية ممكنه التحقيق باتجاه تحقيق عدالة اجتماعية، أو على الأقل تحسين أوضاع الناس الاجتماعية من صحة وتعليم، وتأمين فرص عمل وأجور عادلة، وضمانات اجتماعية : يؤمّن مواردها قطاع عام واسع وفاعل ومنتج، يخضع لرقابة فاعلة من مؤسسات المجتمع الديمقراطية، لتجنب تكوين بيروقراطية تستغله وتعيق تطوره، واعتماد سياسة ضريبية تصاعدية ترتفع تكاليفها على المداخيل والأرباح العالية.

وأول ما يتطلبه ذلك، هو الإقلاع عن السياسات الليبرالية الاقتصادية التي أضرّت بالاقتصاد الوطني، وأساءت لمعيشة الشعب ولشبكة الضمان الاجتماعي، ولا بد من انعطاف جدي نحو سياسات تصب في مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري، إضافة إلى رعاية القطاع الخاص المنتج في الصناعة والزراعة والإنتاج الصغير، والاهتمام بالحرَف السورية التي تحمل ميزات لا مثيل لها في العالم، وإيجاد تقسيم عمل مخطط ومعلن بين كل من مؤسسات الدولة، والمؤسسات الإنتاجية والخدمية الخاصة، والمشتركة، والقطاع التعاوني، مما يساعد على تحقيق أهداف الخطط الإنتاجية والتنمية الشاملة.

وإذا كان السوق ضرورة لتطور الإنتاج والإدارة الفاعلة، فإن تدخّل الدولة ضروري لضبطه وإخضاعه لمعايير اجتماعية وسياسية ضرورية أيضاً، ولتجنب الوقوع في شباك الاقتصاد الوهمي والمضاربات المالية، أي تأمين الاستفادة من كل إمكانات القطاعات والثروات الاقتصادية الوطنية المتاحة، مع الموازنة بين متطلبات النمو الاقتصادي من جانب، ومتطلبات ومصالح فئات الشعب الفقيرة والمتوسطة وخاصة العمال والفلاحين من جانب آخر، والمحافظة على مكتسباتها التي حققتها بتضحياتها. فالشعب السوري يتطلع إلى حياة كريمة ووطن كريم. وقد أثبتت سنوات الأزمة للسوريين، أن الدفاع عن القطاع العام كان موقفاً وطنياً وطبقياً بامتياز، فحين تمادى التجار في استغلالهم واحتكارهم، تدخلت مؤسسات القطاع العام، ولبت احتياجات السوق من المواد الأساسية. وبينما طرد القطاع الخاص آلاف العمال بعد استغلالهم نجد القطاع العام يحافظ على عماله.

إن نظاماً يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية، وعلى التخطيط الموجه، يجب أن يترافق مع ديمقراطية واسعة وعميقة في تكوين السلطة السياسية وممارساتها، وفي علاقات الإنتاج ومجالس الإنتاج، والنقابات العمالية، وترسيخ مبدأ المواطنة.

ورغم أن شكل الملكية يعد أحد العوامل المحددة لطبيعة النظام، إلا أنه لم يعد محدداً كافياً. ففي البلدان الرأسمالية يوجد ملكية للدولة أيضاً. ومع أن وجود القطاع العام في البلدان النامية يعتبر ظاهرة تقدمية، إلا أن تحديد طابع هذه الملكية تحدده ملامح الدولة ذاتها، فالطبقة أو الفئة التي بيدها مقاليد السلطة هي التي تقرر طرق استخدام وسائل الإنتاج الحكومية وأهدافها. ويأتي الضرر عندما تفضّل هذه الفئة مصالحها الخاصة على حساب المصالح العامة لغالبية الشعب. وهذه الملكية العامة حتى في أكثر الدول النامية التقدمية لم تمنع تطور الرأسمالية، وإن ساهمت في عرقلة هيمنتها.

ولم يعد أيضاً القول بنهج الاقتصاد الموجه هو الشرط الكافي في تحديد الطابع الاشتراكي للنظام. بل الأهم هو تحديد من يوجه هذا الاقتصاد؟ ولمصلحة من يوجه؟ فقد أظهرت التجربة إمكانية تكوّن فئة بيروقراطية مسيطرة في أجهزة الدولة تستأثر بالسلطة وتخون منشأها الطبقي، وتوجه هذا التخطيط لمنافعها ومنافع شركائها من الطفيليين. وللحدّ من ذلك لا بد من تفعيل آلية رقابة عمالية مباشرة من خلال مجالس عمالية منتخبة ديمقراطياً، لتضمن توجه المؤسسات لخدمه التوجه الاشتراكي.

ويرتسم الطريق نحو الاشتراكية من خلال خطوات تراكمية للعدالة في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تكون نتيجة لنضال الكادحين، ولنشاط سياسي وفكري واسع، وتلبية لمتطلبات تطوير العمل والإنتاج. ويؤدي استمرار تلك الإنجازات إلى تحول في طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي.

والاشتراكية لا تسلب أحداً القدرة على تملّك منتجات اجتماعي. بل تنزع القدرة على استغلال الغير بواسطة هذا التملك. وتحقق مصالح كل العاملين بسواعدهم وأدمغتهم، وتتيح لهم الانخراط الفعال في الإنتاج، والتمتع بثمار عملهم، والعيش بكرامة وأمان. وكلما تحققت مستويات متقدمة من العدالة الاجتماعية ، توفرت شروط وضمانات لتحقيق معدلات نمو أعلى ومستدامة.

إن مضمون التنمية هي عملية تغيير اجتماعي، وهي بالتالي عمليه صراع طبقي بين طبقات مستفيدة من الوضع القائم، وأخرى تطمح للتغيير، ويحكمها التناقض بين الطبقات الكادحة المنتجة للفائض الاقتصادي من العمال والفلاحين وحلفائهما الوطنيين من جهة، وقوى الهيمنة المستغلة من البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية والكومبرادور وحلفائهما من قوى الهيمنة الإمبريالية. إنها عملية سياسية في نهاية التحليل.

إن تقليص التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة، هما الأساس لاحترام حقوق الإنسان، وتمتين أواصر التضامن بين الناس، وبناء دولة المواطنة الديمقراطية، وتمكين كل السكان المتساوين في الحقوق والواجبات من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية الفعالة وتولي المناصب العامة، وتوفر كل الضمانات لحصول الشعب على أبسط حقوقه ولقمة عيشه بكفاية وكرامة، ومن دونها يتراكم استياؤه، وتتنامى لديه إمكانية نشوء تيارات متشددة، وأعمال الجريمة المنظمة، وينتشر الفساد..

يقول ماركس: (عندما تنفجر الثورة البروليتارية الحقيقية، ستتوفر لها أيضاً شروط تتصل بأسلوب العمل. وهي بالطبع شروط غير سهلة على الإطلاق). فالاشتراكية كنظام اقتصادي واجتماعي وحقوقي لا تستوعبه وصفات جاهزة يمكن الأخذ بها في كل البلدان والظروف. وليس هناك شكل نهائي لها، أو لتنظيمها السياسي للمجتمع، وإنما يمكن أن تعزز الحياة العامة دائماً بأشكال أرقى، من خلال زيادة الوعي الاجتماعي والديمقراطية الأوسع، وحرية غير محددة للصحافة والإعلام، وصراع حر للأفكار، وانتخابات حرة مباشرة وسرية، وتعددية سياسية. ودولة مؤسسات وقانون، وفصل السلطات، وتسلم الإدارات فيها لأصحاب الكفاءات والمهارات الأعلى، بعيداً عن المحسوبيات والمحاباة والولاءات الضيقة، مع نظام تعليمي وقضائي متطور وعادل. واجتثاث لمنابع الفساد.

واشتراكية المستقبل لا بد أن تكون أفضل وأرقى من التجارب السابقة، لأنها ستتجنب سلبياتها، وترسخ إيجابياتها، وتشكل تجاوزاً جدلياً للرأسمالية، وتكون أرقى وأكثر حرية وعدالة. وتطور أشكالاً جديدة للمشاركة الشعبية تتجاوز الديمقراطية البرجوازية، وتوسع مداها حسب الظروف الذاتية والموضوعية لكل بلد. فالديمقراطية التي يبنيها المواطنون الأحرار الواعون لمسؤولياتهم إزاء بعضهم البعض في النظام الاشتراكي تصون نفسها، وتدافع عن نفسها، ويطور الناس آلياتها ومضمونها وفق حاجاتهم الإنسانية الرفيعة، وتقرير مصيرهم بشكل جماعي. وهكذا تنشأ الظروف المناسبة في اشتراكية المستقبل لتكون أوفر إنتاجاً، وتلبية، لحاجات الناس، وأغزر علماً، والأولوية فيها للإنسان، لا لربح البعض وخسارة الآخرين، ومن الواضح أن هذه الأمور كلها تمثل استجابة لمصالح الأكثرية من الشعب، وتحمل الطبقة العاملة فيها صفة تمثيل القوى المنتجة المتقدمة، وتجسيد علاقات إنتاج متقدمة، وإنجاز المهمة التاريخية في بناء الاشتراكية.

وتشكل الماركسية، بوصفها نظرة إلى العالم ومنهجاً علميين، قاعدة نظرية ودليلاً للحركة الاشتراكية. والتعامل بها كدليل يعني أن يجري الجمع بين المبادئ الماركسية العامة والواقع في البلد المعني في المرحلة المعنية من تطوره، واستخلاص التجربة الجديدة الملائمة لظروفه، والمضي قدماً وفقاً لتطور العلوم والممارسة.

العدد 1105 - 01/5/2024